لوحظ أن شعارات القومية العربية كانت تنحو صوب العلمانية ما فسرّه البعض بأن التطابق غير كامل بين العرب والمسلمين، وإنما هناك يهود ومسيحيون؛ ولذلك، اعتمدت العلمانية قريناً للقومية على أساس أن المسيحيين أسهموا أيضاً في حركة القومية العربية وصقل اللغة العربية.

ولكن هذه العلمانية السياسية لم تقابلها – عندما يتعلق الأمر بالقومية العربية – المرونة تجاه الأعراق الأخرى رغم أن العروبة ثقافة وأن التلازم بين العروبة والإسلام كان في المراحل الأولى بعد ظهور الإسلام، فساد العرب العالم يوم رفعوا راية الإسلام وتخلوا عن جاهليتهم الأولى، فلم تتسامح التيارات القومية مع غير العرب، مثل الكرد، مما جعل الصدام بين القومية العربية وهذه الأعراق أمراً مؤسفاً.

في المقابل وعلى المستوى الديني، كان التيار القومي مريحاً كما لم يكن طائفياً؛ ولذلك، فإن اتهام الرئيس العراقي الراحل، صدام حسين، باضطهاد الشيعة لم يكن صحيحاً. أما ملف الكرد، فقد كان صدام حريصاً على وحدة العراق ضد الحركات الكردية الانفصالية؛ ولذلك عندما تحالف الكرد مع شاه إيران للنيل من الجيش العراقي، أقدم صدام على خطوتين:
– الخطوة الأولى: عدّل الدستور العراقي، لعام 1972، منح الكرد الحكم الذاتي.
– الخطوة الثانية: وقّع اتفاق الجزائر، العام 1975، والذي تنازل فيه عن بعض المناطق في شط العرب.

ولما كان إبرام هذا الاتفاق انقاذاً للجيش العراقي من تواطؤ الشاه مع كرد العراق، فقد ألغى هذا الاتفاق وتماهى مع الموقف الأمريكي المعادى للثورة الإسلامية، فبدأ الهجوم على إيران في الأسبوع الثالث من العام 1980 حتى صيف عام 1988. ولما كانت خطة واشنطن تدمير العراق مكافأة له على دعم الجهود الأمريكية ضد الثورة الإسلامية فى أزمة الرهائن، فقد قدمت له المواد الكيمياوية التي هاجم بها مناطق الكرد انتقاماً منهم عما قيل من أنه تواطؤ مع “إيران الثورة”، فما كان من واشنطن إلا توثيق أعمال الإبادة.

وعند إحتلالها العراق العام 2003، قدمت صدام إلى المحكمة أمام قاضٍ كردي ووفرت له الوثائق التى تدينه، وتم إعدامه بالفعل صبيحة عيد الأضحى، العام 2006. هذا على جانب.

على الجانب الآخر، إن المقاومة ضد إسرائيل بشقيها – حركتي “الجهاد” و”حماس” الفلسطينيتين – ثم “حزب الله” اللبناني، فقد سبقتها “حركة فتح” العلمانية.

فقد بدأت “فتح” المقاومة المسلحة ضد اسرائيل في العام 1965، وحرصت على الطابع العلماني حتى تستقطب غير العرب والمسلمين للقضية. وبالفعل، ساند المسيحيون واليسار الدولي فلسطين، ودخلت منظمة التحرير الفلسطينية كحركة تحرر وطني عالمية وممثلاً وحيداً للشعب الفلسطيني العام 1974، وظلت “فتح” – و”كتائب الأقصى” التابعة لها وكذلك المنظمة – علمانية لا تقيد نفسها بالعروبة والإسلام، فقد لوحظ أن الفلسطينيين كانوا الأكثر تعلقاً بالتيار القومي لثلاثة أسباب:
– السبب الأول: أن التيار القومي إدعى التقدمية وكان أميل إلى اليسار، فكان في نظر الفلسطينيين مقبولاً.
– السبب الثاني: أن التيار القومى كان صوته عالياً ويستحوذ على الشارع العربي؛ ولذلك، ضمن دعم الجماهير العربية للقضية وكراهية إسرائيل.
– السبب الثالث: أن التيار القومي كان ينطلق من فكرة الأمة العربية، وتعامل مع القضية على أن فلسطين انتزعت من الأمة وعليها أن تسترد فلسطين المغتصبة.

ولكن الكثير من الدول العربية حاولت استخدام الفصائل الفلسطينية لتوريطها فيما يهمها دون نظر إلى أن القضية الفلسطينية بحد ذاتها، بل إن بعض الحكّام العرب استمد شرعيته من شعارات الانحياز للقضية الفلسطينية وكانت النتيجة ضياع كل فلسطين.

يدرك الفلسطينيون أن الزعماء القوميين هم أول من ضيّع فلسطين ربما عن عجز عن إدارة الصراع، فكان الموالي لفلسطين وضد إسرائيل مواطن عربي، وغير ذلك لا يكون. أما النتيجة – وبسبب سوء الإدارة والاستبداد – أن لحقت الأوطان العربية بفلسطين بينما تسيدت إسرائيل،، لا بل إن الحكّام العرب لا يدركون أن الصهيونية معاكسه للعروبة، وسيادة أحدهما يكون بإنتفاء الآخر.

لاحقاً وعندما تم استيعاب منظمة التحرير التي كانت تقود النضالين السياسي والعسكري، انحرف موقف المنظمة وتورطت في مواقف حاسمة، مثل الغزو العراقي للكويت، خاصة وأن الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، كان يعمل في البداية من الكويت، وتسبب موقفه بضرر كبير للفلسطينيين، خاصة، وللقضية، عامة.

ثم ظهرت الموجة الثانية من المقاومة، فنشأ “حزب الله” لإجلاء إسرائيل عن بيروت العام 1982، وكان الحزب يمثل “الشق الشيعي” من المقاومة. ثم نشأت حركة “حماس”، بعد الانتفاضة الأولى العام 1987، وهي سنيَّة يربط بينهما أمران:
– الأمر الأول: أن إيران تدعمهما.
– الأمر الثاني: أنهما يقاومان إسرائيل ومشروعها الصهيوني.

هذه ظاهرة جديدة أن تكون المعارضة إسلامية. لقد كان ذلك أحد الأسباب التي لم يرحَّب بها كثير من قِبَل دول العالم؛ ورغم التركيز في القضية على الطابع الإنسانى الغلاب، إلا أنها ارتبطت بالطابع الإسلامي، بينما قدمت إسرائيل نفسها على أنها امتداد حضاري وعلماني لأوروبا في المنطقة. وهكذا، اتجه الفكر القومي والمقاوم إلى تغليب العلمانية على غيرها حتى يجذب أكبر عدد من الأنصار، ولكن قضية فلسطين هي قضية سياسية – إلى جانب أنها أيديولوجية – وهي في نهاية المطاف مؤامرة على هذه المنطقة وضد أية قوة أيا كانت شرائعها.

مصدر الصورة: قناة الحرة.

إقرأ أيضاً: العرب والمسألة القومية في القرن الواحد والعشرين

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر.