د. عبدالله الأشعل*
أوضح القرآن الكريم تفاصيل قصة موسى مع فرعون، ولكننا نحاول أن نفسر من الناحية السياسية موقف فرعون من موسى ودعوته في ضوء ملابسات قصة الأخير ونشأته وبني إسرائيل في مصر. ونحاول أيضاً أن نتصور كيف كان يفكر فرعون بمنطق ذلك العصر لأن البعض يرى أنه كان يدافع عن مصر والمصريين، وهذا الرأي يغفل أن موسى نبي الله وأرسل ليهدي فرعون إلى الحق ويخرجه من الضلال، وأن موسى لم يكن طامعاً في أن ينتزع السلطة من فرعون وأن يصير حاكماً لمصر بدلاً منه.
لكن اللافت للنظر هو لماذا كان فرعون والمصريون يكرهون أقلية أجنبية وهي بني إسرائيل الذين تكاثروا في مصر منذ استقدمهم يوسف(ع)؟ ولماذا اهتم القرآن الكريم بمعاناة هذه الطائفة دون سائر الطوائف الأخرى رغم أنهم كانوا يكرهون المصريين وفرعون حتى بلغت عناية القرآن الكريم بهم أن إختار أول رسول من بينهم ليخرجهم من مصر ويخلصهم من معاناتهم التي من الله عليهم؟ فلقد قال تعالى فيهم “وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم” فكأن الله هو الذي سلط فرعون عليهم. وهل كان خروجهم أساسياً أم أنه كان يكفي أن يتوسط موسى عند فرعون لينترع تعهداً منه بحسن معاملتهم؟ وهل جاء موسى لينبه فرعون أنه ليس إلهاً خاصة وأننا نعتقد بأن الأخير كان يدرك أنه ليس إلهاً بدليل أن التكليف الأول لموسى قال “اذهب إلى فرعون إنه طغى فقل له قولاً ليّناً لعله يتذكر أو يخشى”. هذه إشارة إلى الميثاق الذي أخذه الله على ذرية آدم بقوله تعالى “ألست بربكم قالوا بلى وفرعون من بنى آدم”.
السؤال الكبير الذي نحاول أن نقدم اجابة له هو: لماذا لم يصدق فرعون أن موسى نبي الله خاصة وأن الحوار بينهما حول الإله انتقل سريعاً من ألوهية فرعون إلى نبوة موسى؟ يمكن تفسير ذلك بثمانية أسباب على الأقل:
السبب الأول، أن فرعون كان يدعى الألوهية فقط كسبب لشرعيته السياسية وأساساً لسلطته المطلقة، فأحرجه موسى وكانت تلك صدمة له.
السبب الثاني، أن موسى كان من الأقلية التي يمقتها فرعون والمصريون، ويبدو أن فرعون اكتشف ذلك مؤخراً فأراد أن ينتقم من موسى قبل أن يفر من القصر ومن البلاد فطغى على نفسيته الحقد والرغبة في الإنتقام بسبب التحايل الذي تصوره في موسى ليتربى في قصر الفرعون، فكان والحال كذلك يصعب على الأخير أن يقبل الهداية من أحد أعضاء هذه الأقلية.
السبب الثالث، هو أن موسى تربى في قصر فرعون وعرف كل الأسرار الخاصة به، فكبر عليه أن يتحدى موسى كل شرعيته وهو الذي كان يعد بحكم ابنه، حسبما اقترحت امرأة فرعون، عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً بعد أن التقطه حرس قصرهم من اليم.
السبب الرابع، أن فرعون كان يعتز بمصر والمصريين وأن سبب سلطته المطلقة هو استخفافه بعقولهم وإرغامهم على قبول الهداية بحيث لم يكن لديهم عقل يسمح بالإيمان بالإله الحق. ربما كان هذا هو السبب في أن الله عاقب فرعون والمصريين جميعاً مقابل ادعائه الإلوهية، فكانت صورة الإله وصفاته من العدل ورفعة البلاد وقوة شكيمتها وحراسة النيل والرحمة بالضعفاء والإشفاق على عموم الشعب متوفرة في فرعون حيث كان من الصعب على الشعب المصري أن يدرك بعقله المخدوع أن فرعون بشرٌ عادي خاصة مع مبالغة الكهنة في تعظيمه وإحاطته بكل صور الجلال حتى يستديم ملكهم ومكانتهم.
السبب الخامس، ربما ربط فرعون، وهو مصري، بين ظروف استخدام بني إسرائيل في عهد يوسف يوم أن كان ملك الهكسوس يحتل مصر وتعاون يوسف معه، ولو لخيرها، قد أدخل البغضاء في نفس فرعون بدافع الشعور الوطني. ويبدو أن بني إسرائيل في ذلك الوقت كانوا يتعاونون مع المحتل الأجنبي في مصر.
السبب السادس، أن فرعون كان يعلم يقيناً قصص الشعوب التي تعالت على الأنبياء من أقوامهم، وأدرك القاعدة وهي أن النبي يختاره الله من قومه ويبعثه إلى قومه وليس إلى ملك هؤلاء القوم. أما موسى فلم يكن من المصريين ولم يبعث للمصريين وإنما بعث لحاكمهم، مع الإشارة إلى أن أخوه هارون كان يرافقه وهو أمر لم يكن مألوفاً في سجل الأنبياء. كذلك، كان فرعون يعلم قطعاً أن موسى لم يتحداه طمعاً في حكم مصر أو لدفعه إلى قبول الحكم الديمقراطي، وإنما كان له طلبان؛ الطلب الأول، السماح بخروج بني إسرائيل من مصر، وكان يتعين على فرعون أن يرحب بذلك ولكنه وجد هذا الطلب غريباً. الطلب الثاني، كان أكثر غرابة عند فرعون وهو أن يعود الأخير عن إدعاء الألوهية إلى الإله الواحد الأحد.
ولما كان موسى، كما ذكرنا، قد نشأ في قصر الفرعون وأنه عندما هرب بسبب تعقبه لقتله المصري انتصاراً لواحد من بني إسرائيل وتصوير القرآن الكريم لحدة المشاعر المتبادلة بينه وبين بنيه من ناحية وعموم المصريين من ناحية أخرى بقوله تعالى “فإستنصره الذي هو من شيعته بالذي هو من عدوه”. فكان كبرياء فرعون يأبى أن يتقبل فكرة أن هذا القاتل من طائفة مكروهة فر إلى الخارج لعدة سنوات ثم عاد نبياً يتحداه في وطنه؛ لذلك، إلى تعبئة الشعب المصري ضده وأخيه بقوله أن موسى حنق على طريقة الحكم المثلى والعيش الهانئ فجاء حاسداً لهم. ثم لعب فرعون على وتر وطني حساس وهو تمسك المصريين بأرضهم، فقال أن موسى جاء ليخرجكم من أرضكم ولم يقل جاء يحتل أرضكم ولم يكن ذلك صحيحاً بالطبع.
السبب السابع، إن موسى أراد أن يثبت لفرعون أنه نبي والدليل على ذلك هي عصاه التي تتحول إلى حية، فأدرك فرعون فوراً أن موسى ساحر حيث كان فن السحر معروفاً ومشهوراً في مصر، فأراد أن يستفيد بالسحرة لمبارزة علنية مع موسى ولم يدرك أن عصاه كانت معجزة وليست سحراً بخلاف سحرة فرعون الذين سحروا أعين الناس فإذا بعصى موسى تلقف ما قدم السحرة.
لقد اختار فرعون هذه المواجهة العلنية وهو واثق من إحراج موسى وإسقاط دعوته، وأنه سوف يثبت للمصريين أنه مجرد ساحر كي لا يلتفتوا إلى دعوته. وحتى عندما أدرك سحرة فرعون أن عصاه هي معجزة النبوة، أعدمهم فرعون حتى لا يكونوا فتنة، لأن هزيمتهم أمام موسى كانت هزيمة وخزياً لفرعون. لذلك، حضر الشعب المصري كله ليس لمشاهدة المنازلة، وانما للإحتفال بهزيمة فرعون لعدو البلاد موسى.
السبب الثامن والأخير، إن إيمان فرعون بدعوة موسى كانت نهاية له وللفرعونية، وإحراجاً له ولأسرته الذين ادعوا الألوهية طوال هذه السنوات فكان فرعون، برفضه دعوة موسى، يدافع عن بقائه وعن سلطته المطلقة وسببها إدعاء الألوهية، والحق أن فرعون أدرك أن عصى موسى لم تكن سحراً لكن كبرياءه وحرج موقفه منعه من التراجع، ولقد أدرك قطعاً أن موسى نبي عندما تعقبه إلى البحر ورأى بنفسه كيف إنفلق البحر. كان يجب على فرعون، لولا كبرياؤه وتعنته، أن يدرك بأن موسى نبي، والغريب أنه أراد الإستفادة من كراماته ظناً منه أنه سيواصل مطاردته بعد عبور البحر. وحتى عندما حانت ساعة الحقيقة وأدرك أنه هالك، كان اعترافه بما آمن به بنو إسرائيل محاولة لخديعة الله سبحانه، ولكن الله أكمل قدره لعلمه أن توبته لم تكن صادقة فأراد أن يجعله آية من بعده حتى يدركوا أن الله أغرقه، ولكنه أبقى على جسده حتى يكون دليلاُ على معجزة إنفلاق البحر لموسى وانطباقه على فرعون وجيشه لقوله تعالى اليوم “ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية”.
لقد أوضح القرآن الكريم أن فرعون كان يتمتع بنعم كبرى لكنه طغى في البلاد وأكثر فيها الفساد، ورأس الفساد هو إدعاء الألوهية لتكون سوط الظلم لنفسه ولشعبه؛ لذلك، أخذ الله المصريين بالسنين والأوبئة والمجاعات في وجود موسى، وطلب المصريون منه بلا خجل أن يدعو ربه إن كان صادقاً لرفع البلاء، فإستجاب موسى ولكنهم ظلوا على عبادتهم لفرعون قبل أن يغرق وجنوده في البحر.
خلاصة القول، إن تحليلنا هو محاولة لتفسير سلوك فرعون السياسي من موسى، لكن ذلك لا يبرر مطلقاً إنكار فرعون لنبوة موسى خاصة بعد أن ظهر له من آيات الله الكبرى، فجنى على نفسه وعلى الشعب المصري أيضاً.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: أرشيف سيتا.
موضوع ذا صلة: أسطورة الدولة اليهودية الخالصة