بعد توقيع تركيا صفقة شراء منظومة الصواريخ المضادة للطائرات من طراز “إس – 400” الأكثر تطوراً في العالم من روسيا، 12 سبتمبر/أيلول 2017، وبدء تسلّمها الفعلي لها، 12 يوليو/تموز 2019، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، وبعد تردد طويل، 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، فرض عقوبات على أنقرة بسبب شرائها المنظومة الروسية، وذلك بموجب قانون مواجهة خصوم أميركا من خلال العقوبات “كاتسا”، الذي ينص على نحو خاص على فرض عقوبات عندما تبرم دولة ما “صفقة مهمة” مع قطاع التسليح الروسي.
وجاء فرض العقوبات الأميركية بعدما أثير موضوع إجراء تركيا اختبارات فعلية على منظومة “إس – 400″، أكتوبر/تشرين الأول 2020، وبعد تكهنات بإمكانية الاتجاه إلى عدم تفعيلها بسبب المحاذير والمخاوف الغربية من تعارضها مع الأنظمة العسكرية الخاصة بحلف شمال الأطلسي – الناتو، وقدرتها المحتملة على كشف مقاتلات “إف – 35” الأميركية وإسقاطها، فضلاً عن التحفظات الأميركية على ما تتيحه الصفقة من توسيع نفوذ روسيا على الصعيدين السياسي والعسكري، وفي سياق التنافس القائم معها دولياً على ريادة سوق السلاح. هذا على جانب.
وعلى الجانب الآخر، فقد كان لتركيا دوافعها لإتمام صفقة “إس – 400” مع روسيا، بعد تعثر إتمام صفقة “الباتريوت” مع الولايات المتحدة، وحاجتها إلى بناء منظومة دفاعية خاصة بها في مواجهة ما تتعرض له من تحديات، ومع الرغبة كذلك في تحقيق التوازن في العلاقات الخارجية وتنويع مصادر السلاح. وفي الوقت ذاته، حرصت أنقرة على معالجة المخاوف الغربية من الأبعاد المرتبطة بإتمام صفقة “إس – 400” بتأكيدها أن المنظومة الروسية لن يتم إدماجها في أنظمة الناتو، وستكون لأغراض دفاعية فقط.
تلقي هذه الدراسة الضوء على أبعاد العقوبات الأميركية على تركيا، وتأثيرها في مستقبل العلاقات بين الطرفين، في ضوء الدور المحوري الذي لا تزال تتمتع به تركيا داخل حلف الناتو.
أولاً: العقوبات الأميركية على تركيا: ملاحظات رئيسة
وفق ما أعلن عنه وزير الخارجية الأميركي السابق، مايك بومبيو، فإن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة على تركيا، تتضمن حظر جميع تراخيص التصدير الأميركية، وتجميد الأصول، ووضع قيود على تأشيرات دخول المسؤولين عن إدارة الصناعات الدفاعية التركية إلى الولايات المتحدة، بمن فيهم رئيسها إسماعيل دمير، وضباط آخرون(1)، ويعني ذلك أنها لن تتمكن من شراء أنظمة فرعية أو قطع غيار من الولايات المتحدة من أجل المشاريع التي تشارك فيها. وتشمل العقوبات قطاع التمويل، لذا من المقرر منع تركيا من الاستفادة من قروض التمويل التي تفوق 10 ملايين دولار، والتي يقدمها بنك الصادرات والواردات الأميركي، فضلاً عن منعها من الحصول على أي دعم من المؤسسات المالية التي تشارك فيها الولايات المتحدة.(2) وشدد بومبيو على أن العقوبات تؤكد بوضوح أن الولايات المتحدة لن تتساهل حيال أية صفقات كبيرة تتم مع قطاعي الدفاع والاستخبارات الروسيين، معتبراً أن إتمام تركيا الصفقة من شأنه أن يُعرّض أمن التكنولوجيا والأفراد العسكريين الأميركيين للخطر، ويوفر تمويلاً كبيراً لقطاع الدفاع الروسي، ويسهم في وصول الروس إلى القوات المسلحة التركية وقطاعها الدفاعي، ويساهم في توسيع نفوذ موسكو. إلا أنه أكد أن العقوبات لا تستهدف تقويض القدرات العسكرية أو الاستعداد القتالي لتركيا، أو حتى أي حليف أو شريك آخر للولايات المتحدة، وحثّ أنقرة على حل مسألة الصفقة والبحث عن شراء أنظمة بديلة قابلة للتشغيل داخل الناتو تفي باحتياجاتها الدفاعية.(3)
وفي إطار الصفقة مع روسيا، تحصل تركيا على نظامي تشكيل منفصلين يحتويان على أربع بطاريات، كل واحدة منها تضم تسع منصات إطلاق صواريخ، وكل نظام يحتوي على 72 صاروخاً مضاداً للطائرات والصواريخ، إلى جانب 48 صاروخاً احتياطياً.(4) أما بالنسبة إلى قيمة الصفقة فتقدر بـ 2.5 مليار دولار، تدفع تركيا منها 45%، ويكون الجزء المتبقي على حساب قرض روسي(5)، وبناء عليه تعتبر هذه الصفقة الأكبر التي توقّعها تركيا مع دولة خارج الناتو، وتصير روسيا ثالث مصدّر للأسلحة إليها، بعد ألمانيا والولايات المتحدة، وتكون تركيا بذلك أول دولة عضو في الناتو تحصل على مثل هذه المنظومة الصاروخية الروسية المتقدمة، في خطوة تثير بلا شك قلق الولايات المتحدة وباقي دول الحلف، حتى مع تعهد أنقرة بعدم دمج المنظومة في بنى الناتو التحتية العسكرية في الأراضي التركية، واستخدامها فقط كنظام دفاعي فرعي.
وقد جاء تنفيذ الصفقة بعد تكهنات طوال أشهر عدة حول إمكانية لجوء أنقرة إلى تأجيل استلام المنظومة الروسية بذريعة وجود تأخير من الجانب الروسي أو لـ “أسباب تقنية”، في محاولة لتجنب عقوبات أميركية مبكرة ومحاولة التوصل إلى حل مع إدارة الرئيس ترامب التي أعلنت معارضتها إتمام تلك الصفقة.(6) بل أضاف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أن أنقرة ربما تدرس لاحقاً حيازة منظومة صواريخ “إس – 500” الروسية التي تتمتع بقدرات مميزة، وأن بلاده قد تشترك مع موسكو في إنتاجها. وأعلن المدير العام لشركة “روستيك” الروسية المملوكة للدولة، سيرغي تشيميزوف، في سياق الحديث عن إمكانية فتح مباحثات بين موسكو وأنقرة حول توريد المزيد من الطائرات الحربية إلى أنقرة، استعداد بلاده توريد مقاتلات من طراز “سو – 35” لتركيا، إذا أبدت الأخيرة رغبة في ذلك.(7)
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2020، نُشر تسجيل مصور يظهر تجربة تركيا المنظومة الصاروخية على الساحل المطل على البحر الأسود، وخلال ذلك أصدرت وزارة الدفاع التركية إشعارات تحظر دخول المجال الجوي والمياه قبالة ساحلها ليُسمح بإجراء اختبارات عسكرية يتم فيها إطلاق أسلحة وإجراء تدريبات على الرماية يومي 16 و17 من الشهر ذاته، وشملت الاختبارات على الأغلب وحدات “إس – 400″، بهدف التحقق من قدرتها على اكتشاف وتتبع الأهداف، والتثبت من دقة الرادارات، وفاعلية نظام الاتصالات، والسيطرة على النيران والتحكم في القيادة.(8) ويشار إلى أن هذه الاختبارات لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبق أن أجرت أنقرة قبل نهاية العام 2019 تجربة على رادارات المنظومة الروسية بعلم الناتو.(9)
في إثر التجربة الصاروخية الأخيرة، نددت واشنطن بها بشدة، وحذرت مستويات رفيعة في حكومة أنقرة من “عواقب وخيمة” على العلاقات الأمنية بها، مشددة على أن الأمر لا يتسق مع مسؤولية تركيا في حلف الناتو.(10) وفيما لم تنفِ أو تؤكد وزارة الدفاع التركية إجراء اختبارات لإطلاق صواريخ من “إس – 400″، فقد نفت قيامها باختبار المنظومة على مقاتلات شبحية من طرازي “إف – 22” و”إف – 35″، كونهما ليسا في حوزتها أصلاً، في حين تفيد التقارير الغربية أن الاختبارات أجريت في قاعدة “مرتد” الجوية على مقاتلات أميركية غير شبحية من طرازي “إف – 16 فيبر” و”إف – 4 فانتوم II”، ولم يتم الإعلان عن نتائجها بعد، وكان ذلك سبباً رئيساً للعقوبات التي تثير عدداً من الملاحظات، من أبرزها:
• فرضت الولايات المتحدة عقوباتها على تركيا بموجب قانون “كاتسا”، أُقر العام 2017، والذي يسمح للرئيس الأميركي باختيار 5 من بين 12 عقوبة على أي دولة تتعامل في صفقات السلاح مع روسيا. ومنذ حظر السلاح الأميركي على تركيا العام 1975، تعد هذه المرة الأولى التي تفرض فيها الولايات المتحدة عقوبات على تركيا، وأيضاً المرة الأولى ضد دولة عضو في حلف الناتو.
• كان التهديد بالعقوبات يخيّم على تركيا منذ تسلمها صواريخ “إس – 400″، العام 2019، لكن الرئيس ترامب كان يرفض هذا المسعى، ويقول إن ذلك سيؤدي إلى مزيد من التقارب بين أنقرة وموسكو، وبدا كأنه يلتمس الأعذار لتركيا عندما قال إنها ما كانت لتلجأ إلى روسيا لو أن إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما لم ترفض بيع بطاريات “الباتريوت” لها.(11) وفعلاً امتنع الرئيس ترامب وقتاً طويلاً عن استخدام قانون “كاتسا” ضد تركيا، حتى وافق الكونغرس، 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، بغالبية كبرى على قانون تمويل البنتاغون الذي يتضمن إجراء يمهل السلطة التنفيذية 30 يوماً لمعاقبة تركيا على شراء صواريخ “إس – 400″، باعتبار أنها لا تتوافق مع أنظمة حلف الناتو الذي تنتمي إليه.(12)
• جاءت العقوبات الأميركية بعد ساعات قليلة من فرض الاتحاد الأوروبي، 11 ديسمبر/كانون الأول ديسمبر أيضاً، عقوبات على تركيا بسبب سياستها المتبعة في شرق المتوسط، وتضمنت العقوبات حظر السفر إلى الإتحاد الأوروبي، وتجميد أصول الأشخاص والكيانات المرتبطة بالتنقيب في شرق المتوسط، ومنع الأشخاص والكيانات في الإتحاد الأوروبي من إتاحة الأموال لأولئك المدرجين على قائمة العقوبات.(13) وقد قررت قمة الاتحاد الأوروبي توسيع العقوبات المفروضة، نوفمبر/تشرين الثاني 2019، ضد أشخاص في تركيا بسبب أعمالها شرق البحر المتوسط، وأجّل الاتحاد تطبيق العقوبات حتى مارس/آذار 2021، وأمهلها حتى ذلك الموعد لتغيير موقفها بشأن التنقيب في المتوسط وحل المشكلات العالقة مع اليونان وتفعيل مسار القضية القبرصية.(14)
• على غير المتوقع، كان لحلف الناتو موقف شبه متضامن مع تركيا؛ إذ عبّر الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرغ، عن أسفه لفرض الولايات المتحدة عقوبات على تركيا، قائلاً إنه يجب تسوية الخلاف بطريقة مُرضية، واعتبر أن شراء أنقرة منظومة “إس – 400” من موسكو قرار سيادي، داعياً الطرفين إلى البحث عن طرق حلّ، وذلك رغم تصريحه السابق خلال زيارة إلى تركيا، أكتوبر/تشرين الأول 2020، أنه لا يمكن دمج النظام الصاروخي الروسي في نظام الدفاع الجوي والصاروخي لحلف الناتو، وتذكيره مرة أخرى بأن الحلف أبلغ تركيا بذلك.(15)
• أما ردود الفعل التركية، فقد نددت أنقرة بالعقوبات الأميركية التي اعتبرتها بمنزلة تقويض الثقة بين الحلفاء، ولا تنسجم مع روح التحالف والحقائق العسكرية والسياسية، لأن منظومة “إس – 400” لن يتم إدماجها في أنظمة الناتو أو الأنظمة الوطنية المرتبطة بالحلف، وستستخدم تركيا مثل هذه الأنظمة الروسية الموجودة فعلاً في دول أخرى بالحلف، داعية إلى إعادة النظر في القرار الذي وصفته بـ “غير المنصف”، ومكررة استعدادها لبحث القضية عبر الحوار والدبلوماسية، مضيفة أن مقترحها لا يزال مطروحاً حول بحث تأثير منظومة “إس – 400” ومقاتلات “إف – 35” في بعضهما البعض، وذلك ضمن مجموعة عمل بمشاركة حلف الناتو، إذا لزم الأمر.
وإذ ترى أنقرة أن ما تعتبره “ادعاءات أميركية” بأن صواريخ “إس – 400” ستتسبب بضعف في منظومات الناتو تفتقر إلى الأساس الفني، ولفتت إلى أنها اقترحت مراراً تشكيل مجموعة عمل فنية حول الموضوع بمشاركة الناتو، لتناول الأمر على نحو موضوعي بعيداً عن الأحكام السياسية المسبقة، بينما لم تتجاوب واشنطن مع هذا المقترح الرامي إلى حل الخلاف عبر الحوار والدبلوماسية بما يليق بدولتين حليفتين، وبحسب الرؤية التركية، التي تشدد في الوقت ذاته على عدم التراجع عن الخطوة الخاصة بشراء المنظومة الروسية، على اعتبار أن الدولة الواقعة تحت تهديد جوي وصاروخي خطير، اتخذت وستتخذ جميع التدابير المطلوبة من أجل حماية أمنها وأمن مواطنيها.
وتعتبر تركيا أن قرار العقوبات خاطئ من الناحيتين القانونية والسياسية، وأنه اعتداء على حقوقها السيادية، كما نفسها مُعفاة من قانون “كاتسا” لأنها وقعت صفقة المنظومة الروسية لأول مرة العام 2016 في حين جاء هذا القانون بعد ذلك بنحو عام.
كما أظهر البرلمان التركي وحدة نادرة في إدانته العقوبات الأميركية، وقال إن البلاد لن تتردد في حماية نفسها في مواجهة التهديدات. وفي بيان مشترك، شددت أربعة من الأحزاب الخمسة الرئيسة في البرلمان على أن العلاقات بالولايات المتحدة يجب أن تستند إلى الاحترام المتبادل، وأن العقوبات المفروضة بسبب شراء البلاد منظومة “إس – 400” “لا تتماشى مع روح التحالف”، وتابع “ندعو الولايات المتحدة إلى العدول عن هذا الخطأ الجسيم على الفور”، وأن تركيا “لن تتراجع في مواجهة العقوبات أو التهديدات”. ووقع البيان كل من أحزاب “العدالة والتنمية” الحاكم، و”الحركة القومية”، و”الخير”، و”الشعب الجمهوري”، ويُعرف حزبا الخير والشعب الجمهوري بأنهما منافسان لحزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه الرئيس أردوغان، ولكن لم يوقع البيان حزب الشعوب الديمقراطي المؤيد للكرد، وهو ثاني أكبر حزب معارض ممثل في البرلمان.(16)
أما الموقف الروسي، فقد دانت موسكو العقوبات الأميركية، معتبرة إياها أنها “غير مشروعة” وأنها دليل جديد على عجز واشنطن عن التنافس النزيه من خلال القوانين على الصعيد الدولي(17)، في حين عبّرت اليونان “بوصفها عضواً في الناتو” عن ارتياحها بشأن قرار العقوبات المفروضة على تركيا. وسبق لليونان أن انتقدت تركيا بسبب شرائها منظومة “إس – 400” الروسية، على الرغم من أن أثينا تمتلك منظومة الدفاع الجوي الروسية “إس – 300″، واعتبر رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، تركيا “حليفاً غير آمن”، متهماً إياها بأنها “تهدد الأمن المشترك” للناتو.(18)
ثانياً: الرفض الأميركي لصفقة “إس – 400” والمخاوف الغربية
كان من شأن توقيع تركيا وروسيا صفقة “إس – 400” أن يثير قلق الدول الأخرى في حلف الناتو، خاصة الولايات المتحدة التي اعتبرت أن المنظومة الروسية لا تعمل وفق منظومة الدفاعات الغربية. وكان الحلف قد أعرب منذ اليوم الأول لإعلان استلام تركيا أولى قطع المنظومة عن قلقه إزاء التداعيات المحتملة لقرار تركيا التي انضمت إلى حلف الناتو منذ بدايات تأسيسه العام 1952، وتُعدّ من الدول ذات الأهمية في الحلف، وثاني قوة عسكرية فيه بعد الولايات المتحدة، وفق تعداد الجيش والتسليح والموقع الاستراتيجي.(19)
ورغم التأكيدات التركية بأن منظومة “إس – 400” ليست هجومية، وستكون تحت التحكم الفعلي والكامل للجيش التركي ولن تشكل خطراً على أنظمة الناتو ومقاتلات “إف – 35” ، وأن الهدف منها حماية السلام وأمن تركيا القومي، فقد رفضت الولايات المتحدة توقيع الصفقة لعدة أسباب، يمكن إجمالها في ما يلي:
1. المخاوف من التجسس العسكري
تعارض الولايات المتحدة بشدة شراء تركيا منظومة “إس – 400″، على اعتبار أنها تتعارض مع أنظمة الناتو الذي يضم تركيا، مع وجود مخاوف من إمكانية استخدام روسيا هذه المنظومة لجمع معلومات استخبارية عن طائرات “إف – 35” التي يقودها الطيارون الأميركيون، الأمر الذي يهدد أمن الحلف والولايات المتحدة على حد سواء، كما أن وجود نظام دفاعي جديد في دولة عضو في الناتو مثل تركيا سيتطلب مدربين ودعماً ميدانياً، ما يثير جميع أنواع المخاوف الأمنية؛ فالروس سيصبحون في قلب المنطقة الحيوية للحلف وبالقرب من مقاتلات “إف – 35”.
وتبرز هذه المخاوف رغم تأكيدات الجانب التركي أن منظومة “إس – 400” لن تستخدم إلا للأغراض الدفاعية، ولن يتم ربطها بالأنظمة التي يستخدمها الحلف، وأن القواعد التي تعمل بها طائرات “إف – 35” الأميركية ستكون منفصلة جغرافياً عن الصواريخ الروسية، لكن هذا لا يبدد قلق المسؤولين الأميركيين الذين تحدثوا عدة مرات عن أنه إذا وجد النظامان “إس – 400″ و”إف – 35” على مقربة من بعضهما البعض، فإن الروس سيحصلون على المزيد من المعلومات عن قدرات الطائرة، الأمر الذي سيساعدهم على تطوير قدرتهم لتحديد مواقعها على الرادار ومن ثم العمل على إسقاطها.
وبالنظر إلى أن منظومة “إس – 400” تعمل على حماية الأجواء ذاتها التي ستطير فيها طائرات “إف – 35″، إضافة إلى إمكانية تضليلها من جانب الروس إذا ما تم التعرّف إلى الموجات المشفّرة التي تستخدمها للتواصل مع أنظمة السلاح “الصديقة” التي تمتلكها دول الناتو، فكلها مخاطر قد تقلل من كفاءتها في أية مواجهة أميركية – روسية محتملة في المستقبل، أو في أية مواجهة بين حلفاء الولايات المتحدة من ناحية وأعدائها من ناحية أخرى، فضلاً عن أية مواجهة بين تركيا نفسها وروسيا في أية منطقة قد ينشب فيها نزاع بينهما، وهي مناطق ليست بالقليلة وتمتد من سوريا حتى البحر الأسود.
ونتيجة لهذه المخاوف الأميركية، أعلن الرئيس ترامب، يوليو/تموز 2019، عن إيقاف عملية بيع أكثر من 100 طائرة مقاتلة أميركية من طراز “إف – 35” إلى تركيا، رداً على قبولها استلام منظومة “إس – 400″، إضافة إلى شطب اسمها من مشروع تصنيع هذه المقاتلات، وتجميد مساهمة شركات التصنيع العسكري التركية في البرنامج التكنولوجي لتجميع مكوناتها نهاية العام 2022(20)، وقبل ذلك ألغت الولايات المتحدة تدريب طيارين أتراك عليها، يونيو/حزيران 2019، أي قبل شطب اسمها من برنامج “إف – 35” بشهر واحد، وتزامن ذلك أيضاً مع بحث الجانب الأميركي عن مقر مركزي جديد لمقاتلاته الشبحية “إف – 35″، بعد أن كان من المقرر أن تكون تركيا مركز الصيانة الرئيس.
ومن دون إغفال المميزات العالية التي تتمتع بها مقاتلات “إف – 35” الأميركية، والتي تخسرها تركيا مع تنفيذ صفقة “إس – 400″؛ تتميز “إف – 35” بقدرتها الفائقة في المجال الحربي، فهي الطائرة الأكثر تقدماً من مقاتلات الجيل الخامس، وكان برنامج إنتاجها الأعلى تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة وعلى مستوى العالم، متفوقاً بتكلفته على برنامج “حرب النجوم” الأميركي في الثمانينيات؛ إذ يقدر البنتاغون تكلفة برنامج إنتاجها الذي أطلق في التسعينيات من القرن الماضي بنحو 400 مليار دولار، بهدف تصنيع ما يقرب من 2500 طائرة في عقود قادمة.(21)
وإلى جانب حرمانها من التمتع بالتكنولوجيا المتقدمة لمقاتلات “إف – 35″، فإن القرار الأميركي كان من شأنه خسارة تركيا آلاف فرص العمل وخسائر مادية تقدر بمليارات الدولارات، حيث كانت تقوم بتوريد أكثر من 900 جزء من أجزاء الطائرة لصالح شركة “لوكهيد مارتن” الأميركية بعقود مالية كبيرة ستمنحها واشنطن لدول أخرى شريكة في البرنامج أو بديلة بعد استبعاد أنقرة.
وأعلنت الولايات المتحدة أن حجم خسائر تركيا على خلفية شطب اسمها من قائمة المشاركين في برنامج إنتاج مقاتلات “إف – 35” يبلغ نحو 9 مليارات دولار. وقالت وكيلة وزارة الدفاع الأميركية، إيلين لورد، حول هذا الأمر إنه “من الواضح أن تركيا ستخسر، للأسف، فرص عمل وبعض الإمكانيات للنمو الاقتصادي في المستقبل بسبب هذا القرار”، موضحة “لن تحصل [تركيا] على مبلغ يفوق 9 مليارات دولار كان من المقرر أن تكتسبها بفضل مساهمتها في برنامج تطوير ’إف-35‘ على طول مدى عمله.”(22)
2. تأثير الصفقة في التوازن الاستراتيجي في المنطقة
إذا أخذنا في الاعتبار أماكن نشر منظومة “إس – 400” على طول الساحل الجنوبي التركي بالقرب من السفن الحربية التي تراقب عمليات استكشاف مصادر الطاقة قبالة السواحل التركية، فإن ذلك يعزز على نحو كبير القدرات العسكرية لتركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث يسود الخلاف بشأن عمليات التنقيب عن الغاز بين تركيا وقبرص، الدولة العضو في الإتحاد الأوروبي.
ومع الإشارة إلى أن البحر المتوسط ليس الموقع الوحيد الذي تبحث فيه تركيا عن نشر المنظومة الروسية على طول ساحله، بل إنها تنظر في خيارات أخرى، حيث توجد خلافات أخرى بينها وجيرانها، مثل اليونان المدعومة من الإتحاد الأوروبي، ولذا من المتوقع أن تضع أنقرة واحدة من هذه المنظومات الأربع التي تمتلكها في أقرب نقطة من الحدود مع اليونان، لضمان التفوق في التنافس العسكري والإقليمي معها في بحري إيجه والمتوسط، إضافة إلى سباق الغاز الطبيعي حول قبرص الذي سيحدد مستقبل تركيا الاقتصادي ودورها باعتبارها مركزاً للطاقة، إلى جانب روسيا، خلال المائة عام القادمة، الأمر الذي يُقلق دول الإتحاد الأوروبي. وبحسب الخبراء، فإن المنظومة لها قدرة فائقة على تحليل البيانات حول المنطقة الخاضعة لتأثيرها، لذا ستنتج قوة ردع كبيرة وتتدخل على نحو سريع ومناسب ضد التهديدات المحتملة، وستمنح تركيا الأفضلية في التحركات الجوية فوق شرق المتوسط، فضلاً عن سورية والعراق.
3. الأسباب السياسية والتنافس على “سوق السلاح”
يزعج التقارب بين تركيا وروسيا الولايات المتحدة بشدة، بسبب قلق الأخيرة من تمدد النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، ما يهدد مصالح واشنطن في المنطقة. إضافة إلى ذلك، فإن تشغيل تركيا المنظومة الصاروخية الروسية يُعدّ انجرافاً جديداً لأنقرة صوب موسكو، الأمر الذي يعده كثيرون واحداً من أبرز التطورات الجيوستراتيجية في السنوات الأخيرة.
إضافة إلى ذلك، فإن إتمام صفقة “إس – 400” من شأنه تشجيع دول أخرى على اقتناء مثل تلك المنظومة، ما يعني تراجع حصة الولايات المتحدة من سوق السلاح العالمية، ويعيد روسيا إلى المنافسة العالمية في مجال التسليح، ولعلّ هذا ما تخشاه واشنطن التي تريد لحلفائها شراء منظوماتها هي، ليس فقط لأسباب مالية، بل أيضاً للسيطرة التي تحصل عليها عن طريق تقديم الدعم الفني لها وصيانتها وقطع غيارها.
تُعدّ روسيا ثاني أكبر مصدّر للأسلحة بعد الولايات المتحدة، وبحسب ما ذكر تشيميزوف في منتدى سان بطرسبرغ الإقتصادي الدولي لعام 2019، فإن الصادرات الروسية، العام 2018، بلغت 13.7 مليار دولار.(23)
ومع الإشارة إلى أن روسيا تتعامل بذكاء مع تضارب المصالح في المنطقة، بهدف إعادة النفوذ الذي تمتعت به في زمن الاتحاد السوفياتي السابق، لذلك اهتمّت بالزبائن الباحثين عن منظومتها الدفاعية، ولم تضع العراقيل أمام المشترين، مثلما كان الحال مع تركيا، فكانت مرنة في التعامل مع مسألة بيع الصواريخ، وفي المقابل ماطلت الولايات المتحدة في بيع أنقرة أنظمة “الباتريوت”، وعندما وافقت كانت موافقتها بشروط، على رأسها عدم نقل التقنية الخاصة بمنظومة الصواريخ.
ومع فرض العقوبات الأميركية على تركيا، فإن السبب الرئيس لذلك هو تنبيه الدول الأخرى من تعزيز التعاون العسكري مع روسيا، وفي الوقت ذاته رسالة أميركية إلى موسكو باستهداف الأطراف التي تتعامل وتبرم الصفقات الكبرى معها، ولذلك كانت روسيا أول دولة تدين الإجراءات الأميركية بحق أنقرة.(24)
ثالثاً: دوافع تركيا لتنفيذ صفقة “إس-400” رغم المخاوف الغربية
في مقابل التحفظات التي تثيرها الولايات المتحدة، تشدد تركيا على حقها السيادي في إبرام صفقات السلاح، وشراء المعدات العسكرية وفق احتياجاتها الدفاعية، وتبرر اضطرارها إلى شراء المنظومات الصاروخية الروسية بحاجتها الملحة إلى معالجة الخلل البعيد المدى في نظامها للدفاع الجوي، وتأمين حدودها الجنوبية مع سورية والعراق وشرق المتوسط، في الوقت الذي لم تنجح فيه في إتمام صفقات تسلح مع واشنطن، كان أبرزها ما يرتبط بمنظومة صواريخ “الباتريوت” الدفاعية، للخلاف حول الحصول على تكنولوجيا السلاح، وفي ما يلي نبرز الدوافع التركية لتنفيذ صفقة “إس – 400”:
1. الاهتمام بالحصول على تكنولوجيا الصواريخ
من أولى دوافع تركيا لإبرام صفقة “إس – 400” هو الرغبة في الحصول على تكنولوجيا التصنيع لهذه المنظومة، في سياق مسعاها لإنشاء نظامها الخاص للدفاع الصاروخي بحلول عام 2025، وقد فتحت مناقصة في السابق لهذا الغرض، ولكن تبين أن العطاءات التي قدمتها دول الناتو كانت عالية التكلفة من جهة، ولم تتضمن اتفاقاً على نقل تكنولوجيا الصواريخ من جهة أخرى.
ومع تنامي حاجة تركيا بشدة إلى نظام صاروخي للدفاع الجوي بسبب هجمات “داعش” ضدها خلال تصاعد حدة الأزمة السورية، كانت أمام خيارين؛ الأول، نظام “الباتريوت” من الولايات المتحدة مقابل 3.5 مليارات دولار من دون نقل التكنولوجيا، وكذلك فترة انتظار غير متوقعة لموافقة الكونغرس الذي كان يرسل بالفعل إشارات بأنه غير مستعد لمنحها الثاني، منظومة “إس – 400” الروسية مقابل 2.5 مليار دولار، مع نقل القليل من التكنولوجيا والتسليم، العام 2019.(25)
في مقابل تخوف الشركات الغربية من منافسة الشركات التركية التي تمتلك القدرة على التصنيع والتصدير في حال نقل التكنولوجيا إليها لتكون منافساً محتملاً لها، فإن روسيا انتهزت الفرصة وقدمت شروطاً ميسرة لأنقرة من حيث السعر وإمكانية المشاركة في الإنتاج لاحقاً، وفي الحصيلة وقّعت تركيا الصفقة معها.
في العام 2013، توصلت تركيا إلى اتفاق مبدئي مع الصين لبناء أولى منظومات الدفاع الصاروخي التابعة لها، في صفقة بلغت قيمتها 3.4 مليارات دولار غير أنها ألغيت، يونيو/حزيران 2015، قبيل اجتماع مجموعة الـ 20 في أنقرة بضغوط غربية، إذ اعتُبرت الصفقة انتهاكاً للعقوبات الأوروبية والأميركية المفروضة على السلاح الصيني، فضلاً عما كانت ستتيحه للصين من اختراق دوائر التكنولوجيا العسكرية الغربية، ما أدى في النهاية إلى إعاقة إتمامها.
ادعت الحكومة التركية وقتذاك أن سبب إلغاء الصفقة يرتبط بكونها تفتقر إلى مميزات الأنظمة المضادة للصواريخ الباليستية، كما أن العقد الذي قدمته الشركة الصينية لم يتضمن التزاماً بنقل التكنولوجيا إلى الجانب التركي. ولكن بشأن الصفقة الروسية، يؤكد الجانب التركي أنها تتيح استيراد تكنولوجيا إنتاج الصواريخ، ومن ثم تتيح للمهندسين والعلماء الأتراك تطوير قدراتهم لتصنيعها، ما يمكن تركيا من قطع شوط كبير على طريق الاكتفاء الذاتي في مجال الصواريخ الدفاعية الجوية.
2. الإمكانات العسكرية لمنظومة “إس – 400”
يرجع اهتمام تركيا بإتمام صفقة منظومة “إس – 400″، ومعارضة الولايات المتحدة لها، إلى المميزات والإمكانات العسكرية للمنظومة الروسية التي دخلت حيز الخدمة في الجيش الروسي، العام 2007، وهي في الأساس تحديث لمنظومة الدفاع الجوي “إس-300” التي تم تطويرها في تسعينيات القرن الماضي.
وبحسب ما يشير الخبراء، فإن منظومة “إس – 400” تعتبر من أكثر أنظمة الدفاع الجوي كفاءة، وأكثرها تطوراً على مستوى العالم؛ فهي مضادة لطائرات الإنذار المبكر، وطائرات التشويش، وطائرات الاستطلاع، كما أنها مضادة للصواريخ الباليستية، ويمكنها إطلاق صواريخ طويلة ومتوسطة وقصيرة المدى في آن معاً، كما يمكنها تحديد الهدف على بعد 600 كلم، وتدمير الطائرات والصواريخ المجنحة على مسافة 400 كلم، وإطلاق صاروخ بسرعة 4.8 كلم/ثانية، وبهذا تتمكن المنظومة من إصابة الهدف في أقل من 10 ثوانٍ.(26)
وإلى جانب قدرتها التدميرية، فإن “إس – 400” مجهزة برادار قادر على تتبع أهداف متعددة في وقت واحد تصل إلى 300 هدف، كما أنها تحتاج فقط لخمس دقائق ليكون الصاروخ جاهزاً للإطلاق.(27) وتستخدم المنظومة أربعة صواريخ مختلفة المدى لتغطية نطاق عملياتها، وهي: صاروخ 40N6 بمدى 400 كلم للأهداف البعيدة المدى، وصاروخ 48N6 بمدى 250 كلمً للأهداف الطويلة المدى، وصاروخ 9M96E2 بمدى 120 كلم للأهداف المتوسطة المدى، وصاروخ 9M96E بمدى 40 كلم للأهداف القصيرة المدى. كما أن المنظومة مصممة لتدمير طائرات وصواريخ استراتيجية وتكتيكية، وصواريخ باليستية، وأهداف تفوق سرعتها سرعة الصوت.
هذه المنظومة ليست متطورة جداً فحسب، بل أقل تكلفة من المنظومات المناظرة لها أيضاً؛ فعلى سبيل المثال، يتكلف شراء بطارية منها 500 مليون دولار، بينما تتكلف البطارية من منظومة “باتريوت باك-2” نحو مليار دولار، والبطارية من منظومة “ثاد” قرابة 3 مليارات دولار، وهذا هو أحد الأسباب الرئيسة الذي جعل من المنظومة الروسية موضع اهتمام دول عدة في العالم.(28)
والجدير بالذكر أنه خلال محاولات الولايات المتحدة إقناع تركيا بالتخلي عن صفقة “إس – 400” مع روسيا، عرضت عليها تزويدها بصواريخ “باتريوت”، ووافقت واشنطن، ديسمبر/كانون الأول 2018، على بيعها المنظومة المضادة للصواريخ كدليل حسن نية لإقناعها بعدم شراء الصواريخ الروسية المنافسة، وانتهى العرض الرسمي، بحسب مسؤولين أميركيين، نهاية مارس/آذار 2019، وهي المهلة التي حددتها واشنطن لحكومة أنقرة لاتخاذ القرار بشأن ما إذا كانت ستشتري المنظومة الصاروخية التي تنتجها شركة “رايثيون” في صفقة كانت تقدر بـ 3.5 مليارات دولار.
في المقابل، لم يرفض الرئيس أردوغان العرض الأميركي علناً، لكنه كرر القول إنه لن يتراجع عن عقد لشراء منظومة “إس – 400” الروسية، بعد تشديدات أنقرة أنها دفعت لموسكو بالفعل جزءاً من ثمنها(29)، وصرح كذلك بأن “صاروخاً واحداً من أنظمة ’إس – 400‘ يعادل ثلاثة صواريخ باتريوت […] ومع ذلك لو كانت الشروط مساوية حتى [لصفقة] ’إس – 400‘ كنا سنشتري الباتريوت، لكن إذا لم تكن كذلك فعلينا التفكير في مصالحنا”، في إشارته إلى رفض الجانب الأميركي إمداد بلاده بتكنولوجيا الصواريخ الخاصة بالمنظومة.(30)
يضاف إلى ما سبق وجود مشكلات أخرى لمنظومة “الباتريوت” الأميركية مقارنة بـ “إس – 400” الروسية؛ ذلك أن الأولى أخفقت في اعتراض صواريخ عدة دخلت إلى الأراضي السعودية من اليمن، وقد كشفت هجمات الحوثيين بالصواريخ والطائرات المسيرة نقاط ضعف الدفاعات الجوية السعودية المعتمدة على نظام “الباتريوت” الأميركي. وتظهر المقارنة بين المنظومتين سر إصرار تركيا ودول أخرى على الحصول على الصواريخ الروسية، وهو ما يلقي الضوء على الفروق الجوهرية بينهما كما يلي:
• تعد منظومتا “الباتريوت” الأميركية و”إس – 400″ الروسية من أبرز منظومات الدفاع الجوية في العالم، وتصنّع “إس – 400” شركة “ألماز أنتي” الروسية، بينما تصنع “الباتريوت” شركة “رايثيون” الأميركية.
• صواريخ “إس – 400” مصممة لإسقاط أحدث الطائرات والصواريخ في المديين المتوسط والبعيد، ومنها مقاتلات “إف – 35” الشبحية الأميركية و”إف – 22″، بينما تحمي صواريخ “الباتريوت” الأميركية المنشآت العسكرية المهمة والقواعد الجوية من الهجمات الجوية.
• تدمر “إس – 400” أهدافاً جوية على مدى 250 كلم، والصواريخ الباليستية على مدى 60 كلم، بينما يمكن “الباتريوت” إصابة الأهداف الجوية في مدى 160 كلم، والصواريخ على مدى 45 كلم.
• أما نظم الرادار والاستطلاع التي تستخدم لأغراض الإنذار المبكر، ولتتبع الأهداف وتوجيه الصواريخ نحوها، تتميز “إس – 400” بأن رادارها يغطي دائرة قطرها 600 كلم، ويمكن إعدادها للإطلاق خلال 5 دقائق، في حين يغطي رادار “الباتريوت” دائرة قطرها 150 كلم، ويحتاج إعداده إلى 30 دقيقة.
• نتيجة لاختلاف مساحة تغطية الرادارين، تستطيع منظومة “إس – 400” رصد 300 هدف في آن واحد، في حين يتمكن “الباتريوت” من رصد 125 هدفاً فقط. ومن بين هذه الأهداف المرصودة، تكون “إس – 400” قادرة على ضرب 36 منها في آن، أما “الباتريوت” فيدمر 9 أهداف فقط في آن.
• بالنسبة إلى السرعة في إعداد المنظومة الجوية للإطلاق، تحتاج “إس – 400” إلى 5 دقائق للإعداد فقط، بينما يحتاج “الباتريوت” إلى 25 دقيقة، وهنا تظهر أهمية المنظومة الروسية، ذلك أن العسكريين في الحروب يكونون في سباق مع الزمن، وأي صاروخ قد يودي بحياتهم أو يضر ببلدهم.
• أما فيما يخص سرعة إطلاق الصاروخ في اتجاه الهدف بعد جهوزية المنظومة، تتميز المنظومة الروسية بأن صواريخها تكون جاهزة للإطلاق خلال 10 ثوانٍ فقط، بفارق 5 ثوانٍ عن المنظومة الأميركية.
• ولأن المرونة عامل مهم أيضاً في منظومات الدفاع الجوي بسبب تنوع الأجسام المعادية، تتميز المنظومة الروسية بأنها تتمكن من إطلاق صواريخ بزاوية 90ْ، أما الأميركية فلا تتجاوز زاوية الإطلاق فيها 38ْ.
• وبالنسبة إلى أعداد الصواريخ التي يمكن تحميلها، فإن “إس – 400” تحمل 32 صاروخاً، أي ضعف العدد الذي يحمله الباتريوت وهو 16 صاروخاً.
• وفيما يتصل بالارتفاع، تتمكن “إس – 400” من ضرب الأهداف على ارتفاع يتراوح بين 10 أمتار إلى 27 كلم، مقابل 60 متراً إلى 24 كلم لـ “الباتريوت”.(31)
3. أهمية العلاقات مع روسيا والرغبة في تنويع مصادر السلاح
تزداد أهمية تعزيز أواصر التعاون مع موسكو بالنسبة إلى أنقرة في وقت تؤدي فيه الأخيرة دوراً محورياً في التفاعلات السياسية القائمة في الشرق الأوسط، بجانب أن التقارب مع روسيا يعني استمرار التعاون الاقتصادي الكبير بين البلدين، الذي يصل حجمه إلى نحو 50 مليار دولار سنوياً، ويُمكن أن يصل إلى 100 مليار دولار خلال الأعوام الخمسة المُقبلة، خاصة في قطاع السياحة، حيث يتدفّق نحو 6 ملايين سائح روسي سنوياً إلى تركيا.(32) ووصل التعاون والتقارب بين البلدين إلى درجة أن تركيا أجرت مناورات عسكرية مشتركة مع البحرية الروسية في البحر الأسود، مارس/ىذار 2019.(33)
كما أن إصرار تركيا على إتمام الصفقة الروسية يندرج تحت إطار حزمة من الأهداف التي تدفعها إلى البحث عن مصادر بديلة في مجال التسليح، على رأسها الخروج من عباءة واشنطن والتحرر من الضغوط الأميركية في هذا المجال على وجه التحديد؛ فالارتهان لموافقة المسؤولين الأميركيين في ملف التسليح ربما يضع أنقرة في مواقف حرجة مستقبلاً خاصة مع زيادة الملفات الخلافية في المنطقة وأولها الملف السوري والموقف من الجماعات الكردية المسلحة.(34)
لا تُخفي تركيا أن تحركاتها شرقاً وغرباً مردّها الرغبة في تنويع الحلفاء سياسياً وعسكرياً، فلا تريد أن تكون مشترياتها العسكرية مرتبطة حصراً بشركائها الغربيين، وليس سراً أن الرئيس أردوغان يريد أن يجعل من تركيا “قوة أوراسية”، ما يفرض إيجاد توازن بين العلاقات بروسيا والصين من جهة وبالولايات المتحدة من جهة أخرى. وبالنسبة إلى روسيا، وفي سياق السعي نحو “تعدد القطبية العالمية”، فيبدو أنها تسابق الخُطى نحو تحقيق “الفكرة الأوراسية” التي تمثل أساس سياستها الخارجية، وتعني بناء “أعمدة” في قارتي آسيا وأوروبا على وجه الخصوص، بما يكفل لروسيا بناء تكتلات أمنية أو اقتصادية تكاملية تدعم ظهورها بوصفها قطباً مؤثراً عالمياً، وتكسر “أحادية القطبية العالمية”.
4. تراجع الثقة بالغرب
هناك اتهامات توجه إلى دول الناتو بالتقصير في تقديم المساعدة العسكرية لتركيا على النحو المطلوب، والتقصير في تقديم الدعم الصاروخي رغم المطالبات السابقة بذلك. ويشار هنا إلى أن الولايات المتحدة وألمانيا كانتا قد سحبتا الصواريخ الاعتراضية “الباتريوت” من جنوب تركيا، العام 2015، والتي وُضعت منذ العام 2012 للمساعدة في مواجهة الهجمات الصاروخية المحتملة من النظام السوري إثر هجمات وقعت على الحدود مع تركيا، وذلك بعد إعادة تقييم للخطر السوري، واعتبار أن الإمكانيات العسكرية للقوات الموالية لنظام بشار الأسد قد تدهورت خلال الحرب، ومن ثم لا تعد خطراً على الأمن التركي.
ورغم أن التفاوض على الصفقة مع روسيا بدأ منذ أغسطس/آب 2016، يربط مراقبون توقيت الإعلان عنها بتسليم واشنطن 1400 شاحنة أسلحة لـ “قوات سوريا الديمقراطية”، العام 2017، والمكونة أساساً من “وحدات حماية الشعب الكردية” التي تعدها أنقرة ذراعاً لـ “حزب العمال الكردستاني” الذي تصفه بالإرهاب.
وسبق لتركيا أن عبّرت عن انزعاجها الشديد من الدعم الأميركي للقوات الكردية بذريعة التعاون في مواجهة خطر تنظيم “داعش”، في حين رفضت تلبية الكثير من طلبات شراء تركية لطائرات من دون طيار لملاحقة الميليشيات الكردية، وذلك فضلاً عن رفض واشنطن تسليم فتح الله غولن، رئيس “جماعة الخدمة”، الذي تتهمه تركيا بتدبير محاولة الانقلاب الفاشل، يوليو/تموز 2016، بل هناك شكوك من جانب تركيا في دعم الولايات المتحدة وقوى غربية أخرى المحاولة الانقلاب، وإيواء جنود متهمين فيها.
كل ذلك ضاعف حاجة تركيا إلى امتلاك منظومتها الصاروخية الخاصة بها، وتطوير قدراتها في التصنيع المحلي بهذا المجال تحسباً لأي طارئ، ولا سيما في حال امتنع الآخرون عن تزويدها بما تحتاجه في هذا الخصوص.(35)
وعدّت مجلة “ناشيونال إنترست” الأميركية أن أحد أسباب شراء تركيا منظومة “إس – 400” الروسية كان اعتقال العديد من طياري “إف – 16” الأتراك على خلفية محاولة الانقلاب الفاشلة، العام 2016، ولفتت إلى أن اعتقالهم ألحق أضراراً شديدة بالقوات الجوية التركية. وأُفيد في هذا الشأن بأنه بعد خروج 300 من المتخصصين غير الموالين في تركيا، لم يعد هناك عملياً من يقود هذه المقاتلات، ولا سيما أن الولايات المتحدة، وفق المجلة، رفضت مساعدة تركيا وإرسال متخصصيها لتدريب كوادر جديدة. وبسبب ذلك، بدأت أنقرة في البحث عن إمكانيات جديدة للدفاع عن المجال الجوي، ووجدتها في شراء منظومة الدفاع الجوي الروسية.
5. اقتناء دول أخرى في الناتو لمنظومات روسية
لا تعتبر تركيا، في الواقع، أولى دول الناتو التي تستخدم منظومات دفاع روسية؛ فمنظومة “إس – 300” الروسية تنتشر بالفعل في 17 دولة، بينها 3 دول أعضاء في الناتو، هي اليونان وسلوفاكيا وبلغاريا، ولم يتعرض أي منها لعقوبات أميركية.
فبينما ورثت سلوفاكيا من تشيكوسلوفاكيا بطارية صواريخ “إس – 300” مع 48 صاروخاً، تمتلك بلغاريا وحدتين من المنظومة ذاتها تضم كل منهما خمس قاذفات صاروخية، أما اليونان فقد حصلت على منظومة “إس – 200” الأقل تطوراً، كما تسلمت عبر قبرص اليونانية، العام 1997، أربع بطاريات “إس – 300” تضم 16 منصة إطلاق و80 صاروخاً، وكانت أرجأت تشغيلها واكتفت بتخزينها استرضاءً للناتو، غير أن مصادر استخباراتية تركية أكدت قيام الجيش اليوناني بصيانتها واختبارها، العام 2013، في قواعد الناتو في جزيرة كريت، ضمن سياق تدريبات “الصقر الأبيض”.(36)
ومرة أخرى، نوفمبر/تشرين الثاني 2020، كشفت تقارير إعلامية تركية عن إجراء اليونان اختبارات على إطلاق صواريخ من منظومة “إس – 300″، في ساحة للرماية في جزيرة كريت الواقعة في شرق البحر المتوسط قرب سواحل تركيا، بين 23 و27 من الشهر ذاته، بحضور عسكريين من أميركا وألمانيا وهولندا، وكلهم أعضاء في الناتو، بل لفتت إلى أن اليونان جربت ربط المنظومة الروسية بنظام الدفاع اليوناني الأساسي، وهو ما يعني ربطها بالنظام المرتبط بأنظمة الناتو.(37)
وعلى الصعيد الدولي، يأتي الاهتمام التركي بإتمام صفقة “إس – 400” مع روسيا في سياق اهتمام أوسع لدول أخرى بالحصول على المنظومة الروسية، وأعلنت موسكو أن عدد الراغبين في شراء المنظومة لم يتقلص رغم الضغوطات الأميركية على تركيا، وأن تزويد دول أخرى في الشرق الأوسط، أيضاً، بالمنظومة ذاتها يمكن أن يبدأ قريباً، لكن من دون ذكر أي منها.(38) وبحسب مجلة “ناشيونال إنترست”، فقد أبدى العراق ومصر وفيتنام وقطر والسعودية في السنوات الأخيرة الاهتمام بشراء هذه المنظومة الروسية.(39)
ويشار إلى أن الحكومة الروسية لم تسمح إلا مؤخراً بتصدير هذه المنظومة، وذلك في العام 2014، بعد موافقة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، من حيث المبدأ، على بيع المنظومة للصين بـ 3 مليارات دولار، والتي كانت أول دولة توقّع اتفاقية لشرائها، وقد تسلمت الفوج الأول بنجاح، العام 2018.
وكذلك وقعت الهند، أكتوبر/تشرين الأول 2018، عقداً مع روسيا بـ 5.5 مليارات دولار للحصول على 5 أنظمة من منظومة “إس – 400″، تسدد قيمتها عبر آلية دفع خاصة مصممة لتجنب العقوبات الأميركية(40)، على أن يتم تسليم الفوج الأول منها قبل نهاية العام 2021، وعلى أن تحصل على كامل المنظومة قبل نهاية العام 2024(41)، وتم توقيع الصفقة رغم دعوة وزير الخارجية الأميركي، بومبيو، نيودلهي إلى رفض التعاون مع روسيا في المجال العسكري.
ومع ذلك ظلت الهند بمنأى من قانون “كاتسا” الذي يفرض عقوبات على دول ثالثة تشتري أسلحة روسية، بل قامت واشنطن بتزويد الهند بـ 24 طائرة هليكوبتر هجومية من طراز “سيهوك” بتكلفة 2.6 مليار دولار، في حين أنكر مساعد وزير الدفاع الأميركي، أثناء إفادته أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس النواب، مارس/آذار 2020، حصول الهند على المنظومات الصاروخية الروسية، مدعياً أن الصفقة لم تُوقَّع بعد. وبجانب ما سبق، كانت روسيا قد رفضت طلباً من إيران لشراء منظومة “إس – 400″، خشية أن يؤجج ذلك مزيداً من التوتر في الشرق الأوسط.(42)
رابعاً: تأثير العقوبات في مستقبل العلاقات التركية – الأميركية
تثار تساؤلات عدة عن انعكاس تنفيذ صفقة “إس – 400” بين روسيا وتركيا على علاقات الأخيرة بالولايات المتحدة، ووضعها الاستراتيجي داخل الناتو، والموقف التركي في حال وجود أية مواجهة محتملة، مباشرة أو غير مباشرة، بين أي من دول الناتو وروسيا، مع الأخذ في الاعتبار أن تشكيل الحلف جاء، في الأساس، لمواجهة تمدد الاتحاد السوفياتي السابق، واستمر دوره في مواجهة النفوذ الروسي في النطاق الشرقي لدول الحلف. غير أن الخلاف بين تركيا حول صفقة “إس – 400” لا يعني توتراً في العلاقات التركية – الأمريكية، أو تأثيراً في موقعها في حلف الناتو، ويتضح الدليل على ذلك مما يلي:
• تأكيد بومبيو أن هدف العقوبات على تركيا هو منع روسيا من الحصول على مداخيل مالية وعلى النفوذ، وليس تقويض القدرات العسكرية أو الاستعداد القتالي لتركيا، التي حثّها في الوقت ذاته على حل صفقة “إس – 400” بسرعة وبالتنسيق مع واشنطن وبطريقة تتناسب مع عقود من التعاون الدفاعي بين البلدين، والبحث عن شراء أنظمة بديلة قابلة للتشغيل داخل الناتو، مع تأكيده أن تركيا تبقى حليفاً مهماً وشريكاً أمنياً إقليمياً للولايات المتحدة. وتابع “نحن نسعى لمواصلة تاريخنا الممتد لعقود من التعاون المثمر في قطاع الدفاع من خلال إزالة عقبة امتلاك تركيا ’إس-400‘ في أقرب وقت ممكن”.(43) وأعلن مساعد وزير الخارجية الأميركي، كلارك كوبر، أن الغرض من العقوبات ضد تركيا هو تصحيح مسار تحالفهم معها وتوطيده، وليس العكس. وبناء عليه، ما يدفع الولايات المتحدة، في الواقع، نحو عدم التوسع في فرض العقوبات على تركيا هو المخاوف من أن تؤدي مضاعفة العقوبات إلى مزيد من التقارب بين تركيا وروسيا التي تعرض بالفعل بدائل عسكرية لا يستهان بها من ناحية الجودة والسعر، وتلويح مسؤولين أتراك مراراً بتدشين مفاوضات مع موسكو لشراء أنظمة الدفاع الجوي الروسية الأحدث على الإطلاق من طراز “إس – 500″، علاوة على مقاتلات الجيل الخامس من طراز “سو – 57″ و”ميغ – 35”.
•وعلى الجانب التركي، فإن مستشار الصناعات الدفاعية برئاسة الجمهورية التركية إسماعيل دمير، الذي شملته نفسه العقوبات الأميركية، شدد على علاقة التحالف التي تربط بلاده بالولايات المتحدة في إطار الناتو فضلاً عن العلاقات الثنائية على مختلف الصعد، والتأكيد على الرغبة في استمرارها، وألا تؤثر فيها هذه العقوبات، مضيفاً أن “مشروعاتنا تنفذ عبر شركات لم تطل العقوبات الأميركية أياً منها، ولن تؤثر على الاتفاقات والتسويات الموقعة قبل تاريخ صدور العقوبات”.(44)
وسبق أن صرّح وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، أنه على الرغم من وجود بعض الخلافات لبلاده مع الولايات المتحدة، فإن البلدين لديهما تقليد عريق في التعاون، وأضاف في كلمة خلال منتدى “هاليفاكس” للأمن الدولي، 23 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أنه “بالتأكيد تظهر أحياناً تقلبات في علاقاتنا مع الولايات المتحدة وخلافات حادة في الآراء، كما الحال في البلدان الأخرى […] لكن ينبغي ألا ننسى أنه رغم وجود خلافات فإن لدى البلدين تقليداً عريقاً في التعاون يتم التغلب من خلاله على الصعوبات.”(45)
حتى إن كان البعض يرى أن العقوبات الأميركية من شأنها أن تلحق على الأرجح ضرراً بالاقتصاد التركي الذي يعاني بالفعل في ظل جائحة فيروس “كورونا”، فإن الملاحظة الرئيسة هي أن التحذيرات بفرض عقوبات أميركية على تركيا لم تكن جديدة، فسبق أن هددت الولايات المتحدة بفرض هذه العقوبات منذ بدء تسلم تركيا المنظومة الروسية، العام 2019، لكنها لم تفرضها إلا مع قرب انتهاء ولاية الرئيس ترامب الرئاسية، وعندما تم فرضها كانت ذات طابع محدد، ولم تشمل اقتصاد تركيا، واقتصرت العقوبات بعد تردد في فرضها على حظر تصدير الأسلحة إلى المؤسسة الحكومية التركية المكلّفة بشرائها، ومنع قادتها من زيارة الأراضي الأميركية. وبذلك أفلتت تركيا في الواقع من عقوبات أشد، مثل الاستبعاد من دائرة التحويل المصرفي الدولي “سويفت”، أو إجراءات ضد المصارف الضالعة في الصفقة مع روسيا.
والجدير بالذكر أن تركيا تحصل على أذونات وتراخيص مختلفة من الولايات المتحدة لبعض منتجات الصناعات الدفاعية ومنتجات المشروعات المشتركة ونقل التكنولوجيا، ومن الواضح أن هذه التراخيص ستتأثر بمستويات مختلفة، غير أن بعض صفقات الشراء الكبرى والصفقات الاستراتيجية تتم في الأساس عبر وزارة الدفاع وليس عن طريق رئاسة الصناعات الدفاعية، ويمكن حل هذه المشكلة بنسبة كبيرة من خلال منح التراخيص لتركيا عبر وزارة الدفاع والقوات المسلحة بدلاً من رئاسة الصناعات الدفاعية، وفقاً لطبيعة العلاقات التركية المستقبلية مع إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة.
كان لافتاً تعبير ستولتنبرغ عن أسفه لفرض الولايات المتحدة عقوبات على تركيا، قائلاً إنه يجب تسوية الخلاف بطريقة مُرضية، واعتبر أن شراء تركيا منظومة “إس – 400” من روسيا قرار سيادي(46)، وذلك رغم تصريحه السابق خلال زيارة إلى تركيا، أكتوبر/تشرين الأولر 2020، أنه لا يمكن دمج النظام الصاروخي الروسي في نظام الدفاع الجوي والصاروخي للناتو، وسبق أن صرح ستولتنبرغ بأن تركيا ستبقى عضواً مهماً في الناتو رغم شرائها منظومة “إس – 400” الروسية.(47)
وأخيراً، لم يحُل اقتناء تركيا للمنظومة الروسية دون تسلمها قيادة قوة المهام المشتركة عالية الجاهزية للغاية التابعة للناتو – VJTF في اليوم الأول من العام الجديد 2021، مدة عام. وأشار بيان صادر عن الحلف إلى أن نحو 4200 جندي سيتمركزون في قيادة لواء المشاة الميكانيكي رقم 66 في تركيا كجزء من قوة المهام المشتركة في إطار قوة الرد التابعة لحلف الناتو، والتي ستضم 6400 فرد في الخدمة، مع إضافة جنود من ألبانيا والمجر وإيطاليا وليتونيا ومونتينيغرو وبولندا ورومانيا وسلوفاكيا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة. وأضاف بيان الناتو أن “تركيا قامت باستثمارات كبيرة في الوحدة، التي تعتبر الأكثر قدرة على الحركة في حلف الناتو، لا سيما في التخطيط لمتطلباتها اللوجستية والذخيرة”.(48)
خاتمة
تُظهر الحقائق السابقة محدودية تأثير إتمام صفقة “إس – 400” بين تركيا وروسيا في علاقة الأولى بالولايات المتحدة، وغياب التأثير في دور تركيا في الناتو، وذلك لصعوبة تجاوز دورها المحوري في الحلف؛ فتركيا ليست فقط عضواً قديماً في الناتو، بل شاركت في أغلب عملياته، وكان لها دور مهم في نجاحها، ويصعب تجاوز هذا الدور المحوري في أنشطة وفعاليات الحلف، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، فقد بنت تركيا علاقاتها منذ عقود بانحياز مستدام للمعسكر الأطلسي أو الغربي متمثلاً بالولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، وقد شهدت هذه العلاقات بعض الانتكاسات والتراجعات في عدد من المحطات التاريخية، وذلك ما دفع تركيا نحو الجنوح إلى الفاعل الروسي لتعديل كفة الميزان، ولكن يعتقد المتابعون أن ذلك التقارب مع روسيا هو جنوح تكتيكي وليس استراتيجي فرضته عوامل ظرفية، منها التعنت في تسليم منظومة الدفاع الأميركية “الباتريوت”، والخلاف حول ملفات سياسية واقتصادية مع الولايات المتحدة وأوروبا، وضرورات جيو – سياسية فرضتها الأزمة السورية على الحدود، ومن خلال هذا التوازن تسعى تركيا إلى تعويض ما تستطيع من خسائر خلقها الفتور في علاقاتها بالولايات المتحدة.
المراجع:
1. أنظر:
“Pompeo Tells Turkey its Purchase of S-400 Missile Defense System will Endanger U.S. military,” Reuters, 14/12/2020, accessed on 23/12/2021, at: https://reut.rs/3spje3P
2. حميرة باموق وطوان جوموركجو، “أمريكا تفرض عقوبات على تركيا بسبب منظومة الدفاع الصاروخي الروسية”، رويترز، 14/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/3dCUTmK
3. “الخارجية الأميركية: بومبيو تحدث مع نظيره التركي حول ’”أس-400‘”، الحرة، 18/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://arbne.ws/3brRFjo
4. “شراء منظومة أس-400 يعكر صفو العلاقات التركية الأميركية”، الجزيرة نت، 14/6/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/2NPIQHZ
5. “تركيا تشتري من روسيا أنظمة دفاع صاروخي إس-400″، بي بي سي عربي، 12/9/2017، شوهد في 23/2/2021، في: https://bbc.in/2ZJyUlW
6. جابر عمر، “تركيا تبدأ المرحلة الأولى من عملية تسلّم منظومة ’إس 400‘ الروسية”، العربي الجديد، 12/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3pJcHir
7. “أردوغان: تركيا متمسكة بصفقة منظومة إس-400 مع روسيا”، رويترز، 6/3/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/37Ax3V5
8. “حظرت المجال الجوي قبالة البحر الأسود.. هل تمهد تركيا لاختبار منظومة إس-400 الروسية؟”، الجزيرة نت، 15/10/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3dDKG9D
9. “تقارير: تركيا تختبر منظومة إس-400 الدفاعية الروسية رغم الضغط الأمريكي”، رويترز، 25/11/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/3pMsIV9
10. “’عواقب وخيمة‘.. واشنطن تحذر تركيا بعد اختبارها إس-400″، الحرة، 23/10/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://arbne.ws/2NPg1eW
11. أنظر:
Cagan Koc & Margaret Talev, “Trump Says Obama Treated Erdogan Unfairly on Patriot Missile,” Bloomberg, 29/6/2019, accessed on 23/2/2021, at: https://bloom.bg/3uqZRcs
12. “أردوغان: العقوبات الأمريكية لن تردع الصناعات الدفاعية التركية”، رويترز، 16/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/3aMoOam
13. “شرق المتوسط: الاتحاد الأوروبي يتجه نحو فرض عقوبات على تركيا وأردوغان يقلل من أهميتها”، فرانس 24، 9/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3kfjlfm
14. “اتفاق في القمة الأوروبية على فرض عقوبات على أنقرة”، دويتشه فيله، 11/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3kdQYOC
15. “’الناتو‘: نولي أهمية كبيرة لتركيا لمساهماتها الكبيرة”، وكالة الأناضول، 5/10/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3qOcmwf
16. “العقوبات الأميركية على تركيا.. الناتو يرفض وجبهة داخلية موحدة في مواجهتها”، الجزيرة نت، 15/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3bALJ7E
17. “موسكو: العقوبات ضد تركيا تظهر عجز واشنطن عن التنافس النزيه”، روسيا اليوم، 16/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/2Mn7wHC
18. “اليونان ترحب بفرض العقوبات الأمريكية على تركيا”، روسيا اليوم، 15/12/2020، شوهد في 23/12/2021، في: https://bit.ly/3qOfgRI
19. “الناتو ’قلق‘ بعد تسلم تركيا أول شحنة من منظومة صواريخ روسية”، دويتشه فيله، 12/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3khiTNv
20. أنظر:
“U.S. Booting Turkey from Fighter Program over Russian Arms Deal,” NBC News, 17/7/2019, accessed on 23/2/2021, at: https://nbcnews.to/2ZF3CwC
21. “واشنطن تمهل تركيا حتى أواخر الشهر المقبل للتخلي عن صفقة منظومة صواريخ أس-400 الروسية”، بي بي سي عربي، 8/6/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bbc.in/3khaOIN
22. “الليرة التركية تحافظ على استقرارها وتتحدى العقوبات الأميركية”، العربي الجديد، 18/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3uqb0dp
23. “بالصور… أكثر من 1000 منتج لـ ’روستيخ‘ في ’أرميا 2019‘،” سبوتنيك عربي، 25/6/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/37DKIdO
24. “لافروف: العقوبات ضد أنقرة ’غطرسة‘ على القانون الدولي”، وكالة الأناضول، 14/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/37IfemZ
25. عائشة كربات، “حكاية تركيا والـ ’إس-400‘”، المدن، 17/3/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3bBmpOS
26. “ما هو نظام أس 400 الدفاعي الذي تريد السعودية شراءه من روسيا؟”، بي بي سي عربي، 13/10/2017، شوهد في 23/2/2021، في: https://bbc.in/3kg3jSs
27. “صواريخ أس 300″، الجزيرة نت، 16/4/2015، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/2ZFkIdU
28. علاء أبو العينين، “’إس-400‘.. الصين أول مشتر وتركيا والهند في الطريق و10 دول ’مُهتمة‘ (إطار)”، وكالةالأناضول، 9/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3aJ9rQ3
29. “تركيا وأمريكا تتجهان صوب مواجهة بسبب صفقة صواريخ روسية”، رويترز، 8/3/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/3dIqraW
30. توفان جومروكتشو، “تقارير نقلاً عن أردوغان: بدء تسلم منظومة إس-400 الروسية خلال 10 أيام”، رويترز، 1/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://reut.rs/2NqYs54
31. “9 معلومات تكشف سر إصرار تركيا على شراء صواريخ ’إس 400‘ الروسية”، سبوتنيك عربي، 13/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3ki3qgn
32. “تراجع أعداد السياح الروس في تركيا بنسبة 70% خلال 2020″، سبوتنيك عربي، 9/12/2021، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3sfCK2o
33. “لماذا تنظر واشنطن في وقف تسليم أنقرة طائرة أف-35؟”، بي بي سي عربي، 23/3/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bbc.in/37DPyrO
34. “صواريخ إس 400.. هل تحمي تركيا أم تدمر اقتصادها؟”، الحرة، 13/9/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://arbne.ws/3pKiDaX
35. خليل مبروك، “خبراء: تركيا اضطرت لشراء الصواريخ الروسية بعد مواقف الغرب”، الجزيرة نت، 14/9/2017، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3qTKmaU
36. سعيد عبد الرازق، “تقارير تركية عن اختبار اليونان صواريخ ’إس 300‘ في كريت”، الشرق الأوسط، 30/11/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3qS5M88
37. المرجع نفسه.
38. “موسكو: عدد الراغبين في إس-400 لم يتقلص رغم الضغوط الأمريكية”، سبوتنيك عربي، 23/7/2019، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/37DVHny
39. “مجلة أمريكية: منظومة صاروخية روسية هي ’السبب الرئيسي لفزع الناتو‘”، روسيا اليوم، 18/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3aKGRgZ
40. “الهند تتسلم نهاية العام الجاري أول فوج من ’إس-400‘”، روسيا اليوم، 4/2/2021، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3ke5g1Q
41. “روسيا تسلم الهند ’إس-400‘ قبل نهاية عام 2024″، سبوتنيك عربي، 16/3/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3qOu6b4
42. أنظر:
Zainab Fattah & Ilya Arkhipov, “Russia Rejected Iran S-400 Missile Request Amid Gulf Tension,” Bloomberg, 31/5/2019, accessed on 23/2/2021, at: https://bloom.bg/3qPOsk5
43. “تفاصيل العقوبات على تركيا ضمن قانون ’مكافحة أعداء أمريكا‘”، سي إن إن بالعربية، 15/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://cnn.it/3qN0UkH
44. سعيد عبد الرازق، “تركيا تتحدى العقوبات الأميركية: لن نتخلى عن صواريخ ’إس 400‘”، الشرق الأوسط، 18/12/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3aJnTrh
45. سعيد عبد الرازق، “تركيا: صفقة ’إس 400‘ الروسية ليست موضوع مساومة”، الشرق الأوسط، 24/11/2020، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3usCmQj
46. “العقوبات الأميركية على تركيا.. الناتو يرفض وجبهة داخلية موحدة في مواجهتها”.
47. “ستولتنبرغ: تركيا ستبقى عضواً مهماً في الناتو رغم صفقة ’إس-400‘”، روسيا اليوم، 7/8/2019، شوهد في 23/12/2021، في: https://bit.ly/3kgy5KU
48. “تركيا تتسلم قيادة وحدة تابعة للناتو لمدة عام”، روسيا اليوم، 2/1/2021، شوهد في 23/2/2021، في: https://bit.ly/3bwodsH
المصدر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
مصدر الصور: حفريات – النهار – دي دبليو
موضوع ذا صلة: “سو – 57” بدل +إف – 35″؟!
د. إيمان أحمد عبد الحليم
محرر سياسي بالمركز الدبلوماسي للدراسات الاستراتيجية. حاصلة على الدكتوراه في العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة – 2016.