أكدت قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة على وضع القدس، وبطلان أي إجراء من طرف واحد ويقصد بذلك إسرائيل، ما يعني بطلان قوانين ضم القدس خاصة قانون الكنيست للعام 1980، الذي صدر وأُعلن فيه أن القدس الموحدة، بشقيها، هي عاصمة دائمة وأبدية لإسرائيل. وقد صدر قرار من مجلس الأمن بهذا الغرض، أغسطس/آب 1980، هو القرار رقم 476 الذي قدمت مشروعه الولايات المتحدة.
لكن الرائج أن ضرب المفاعل النووي العراقي، العام 1980، وقانون “ضم القدس” في نفس العام ثم قانون ضم الجولان، العام 1981، كان اختباراً للرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، الذي “أغرى” إسرائيل بالإسراع في تقدم المشروع الصهيوني في المنطقة.
عهد القرار 476 إلى الأمين العام متابعة تنفيذه، وتقديم تقرير بشأنه إلى مجلس الأمن، وطلب هذا القرار من الدول التي نقلت سفاراتها من تل أبيب إلى القدس بأن تعيدها مرة أخرى. فلقد تمسكت الأمم المتحدة بوضع القدس منذ رُسم هذا الوضع “قرار التقسيم”، ثم أكد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية هذا الوضع بمناسبة محاولة إسرائيل تغييره من خلال إشادة الجدار العازل الذي أسمته “جدار الأمن”؛ وما دام متصلاً بالأمن، فإنه يسمو على القانون الدولي والأمم المتحدة.
والملاحظ أن “قرار التقسيم” هو شهادة ميلاد إسرائيل والمؤسس الكبير لشرعيتها الجريحة، لكنه يلزمها باحترام وضع القدس الخاص في ملحق القرار 181؛ ويترتب على ذلك عدم القيام بأي تغيير في وضع القدس، خاصة وأن ديباجة القرار كلفت مجلس الأمن بتنفيذه بالقوة بسلطات الفصل السابع من الميثاق.
من هنا، يبدو طبيعياً أن تشكّل عملية ضم القدس انتهاكاً لـ “قرار التقسيم”، ثم ألزم قرار الجمعية العامة المعتمد على توصية مجلس الأمن بقبول إسرائيل عضواً في الأمم المتحدة مقابل التزامها بثلاثة التزامات، حيث أنه يعتبر القرار الوحيد الذي صدر مشروطاً. أول هذه الشروط هو احترام “قرار التقسيم”، فكان ادعاء إسرائيل أن القدس بشقيها الشرقي، المحتل العام 1967 والمدعوم بقرارات الأمم المتحدة وقرار المحكمة العالمية، والغربي، الذي اغتصبته بالمجازر في العام 1949، هو انتهاك صارخ لـ “قرار التقسيم” ولقرار قبول عضويتها في الأمم المتحدة.
ثم التزمت إسرائيل ضمن “إتفاق أوسلو” بألا تتخذ أي إجراء انفرادي في القدس، حيث حجزت الأخيرة ضمن خمسة موضوعات لمفاوضات الوضع أو الحل النهائي. ولكن ومن المؤكد أن كلاً من واشنطن وإسرائيل ينتهكان القانون الدولي بشأن وضع القدس. وهذا الوضع القانوني يشكل تحدياً قانونياً إضافياً للبعثات الدبلوماسية التي نقلت من تل أبيب إلى القدس.
هنا، نحصر جوانب هذا المأزق في الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: إن الدولة المستقبلة هي التي تحدد عاصمتها والبعثات الدبلوماسية وفقاً لإتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، للعام 1961، وهي ملزمة بأن تتخذ مقارها في العاصمة. ولكن هذه العاصمة، أي القدس، مغتصبة؛ بالتالي، تعتبر جميع التصرفات القانونية المترتبة عليها باطلة ويجب على البعثات الدبلوماسية أن تمتنع عن نقل مقارها من تل أبيب إلى القدس، وطبعاً بتعليمات من دولها لأن هناك تعقيدات قانونية أخرى سنوضحها فيما بعد.
الملاحظة الثانية: إن خطاب اعتماد السفير يصدر من رئيس الدولة إلى رئيس الدولة المستقبلة. وفي هذه الحالة، يلتقي وزير الخارجية في مقر الوزارة، وهي في القدس، لكي يسلم صورة من أوراق الاعتماد ثم يقدم الأصل إلى رئيس الدولة في العاصمة أيضاً ضمن استقبال رسمي. معنى ذلك، أن الرئيسين ينتهكان القانون الدولي والجزاء هو بطلان الاعتماد.
الملاحظة الثالثة: ما هو معلوم أيضاً أن التمثيل القنصلي يختلف في مدلوله القانوني عن التمثيل الدبلوماسي؛ فالقنصل يحصل على خطاب من وزير خارجيته موجه إلى وزير خارجية الدولة المضيفة يحدد فيه نطاق عمل القنصلية العامة، أما القسم القنصلي في السفارة فلا يحتاج لذلك، بل يصدر قرار من السفير في إطار توزيع العمل في السفارة على الأعضاء الدبلوماسيين.
بالتالي، إن الدولة المستقبلة لا تستطيع قانوناً أن تغتصب عاصمة ثم تجري فيها تصرفات قانونية فيما يتعلق بترخيص ممارسة الأعمال القنصلية التي تعطى للقنصل العام، فهي بذلك تخرج عن القواعد السابقة. ولذلك، يفصل القانون الدولي بين العلاقات الدبلوماسية والقنصلية. فإذا قطعت العلاقات الدبلوماسية قطعت معها العلاقات القنصلية ما لم يتفق الطرفان علي غير ذلك، كما حدث في حالات القطع العربية مع مصر بسبب صفقة “كامب ديفيد” ولكن يجوز قطع العلاقات القنصلية دون أن تؤثر على العلاقات الدبلوماسية.
من هنا، إن إنشاء العلاقات القنصلية لا يتطلب الاعتراف المتبادل بين الدولة المرسلة والمستقبلة، وذلك على عكس العلاقات الدبلوماسية التي تشترط لقيامها الاعتراف المتبادل. كما أن إقامة العلاقات لا تشترط إنشاء البعثات، ولكن قطعها يحوّل السفارة إلى بعثة لرعاية المصالح تحت رعاية دولة ثالثة.
فعندما قرر الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وقرر نقل سفارة بلاده إليها بالمخالفة للقانون الدولي الذي عكس الموقف الأمريكي المضطرد طوال عقود، يبدو أنه لم يتطرق إلى هذا المأزق القانوني الذي وضع نفسه فيه؛ حيث إعتبر بأن نقل السفارة إلى القدس، عاصمة إسرائيل ومقر الحكومة والبرلمان، لم يُحدث أي تغيير. يأتي ذلك في وقت تزعم فيه إسرائيل أن الدول الممثلة لديها “ملزمة” بنقل سفاراتها إلى المدينة التي اتخذتها الدولة كعاصمة لها، وهي بذلك تقفز فوق الجوانب القانونية الحاكمة لهذا الموضوع.
مصدر الصورة: مونتي كارلو الدولية.
موضوع ذا صلة: هل يمكن أن تعترف دولة عربية بإسرائيل وفلسطين معاً؟
د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر