كافة دول الشرق الأوسط لها وجهة واحدة إما مع الشرق أو مع الغرب ولو بدرجات مختلفة في مختلف القضايا. لكن أردوغان اختار نقطة التوازن الحرجة بين ثلاثة محاور: محور التوازن بين الماضر والحاضر، والثاني هو المحور الروسي والشرقي عموماً والثالث هو المحور الغربي.
فروسيا في صراعها مع الغرب تدرك يقيناً أهمية موقف تركيا في المساعدة في حسم الصراع، فيدرك بوتين مخاطر الداخل الروسي، كما يدرك أثمان الصراع مع الغرب وهو الصراع الممتد بين الطرفين لأكثر من قرنين ولأول مرة تشعر روسيا بتهديد وجودي لأن الغرب تسلل إلى الأمن والوجود في روسيا من خلال أوكرانيا التي كانت تاريخياً جزءاً من الوجود الروسي الإمبراطوري والسوفيتي ثم حتى عام 2014 أي 24 سنة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي.
ويدرك بوتين أن تاريخ القرن التاسع عشر ومنذ نشأة الإمبراطورية الروسية والإمبراطورية العثمانية وهما في صراع على النفوذ يضاف إليه صراع قومي وديني وكان الغرب تارة مع روسيا وفي أوقات أخرى حسب مصالحه مع تركيا. فالعامل التاريخي يستدعي العداوات والحروب الروسية التركية، لكن أردوغان وبوتين اللذان يعتزان بماضي بلادهما قررا احتواء التاريخ لخدمة تحديات الحاضر وألا يكونا أسرى التاريخ الذي يكبل فرص الحاضر. وتدرك روسيا أيضاً أن المصالحة بين تركيا وروسيا وإيران لصالحها وأن التصعيد الأمريكي في سوريا ضد روسيا هو امتداد للصراع الروسي الغربي في أوكرانيا. كما تدرك روسيا أن تركيا وتحولها إلى ثغرة أمنية تضر بها أكثر من أوكرانيا. ولذلك صبرت موسكو على تجاوزات تركيا وأهمها ثلاثة أولها إسقاط طائرة حربية روسية فوق الأراضي التركية وابتلعت مبررات تركيا لأن موسكو علمت بخطة الناتو لإغواء تركيا ضد روسيا. كما سعدت موسكو في البداية بمعارضة تركيا لانضمام السويد للناتو ولكنها وافقت بعد ترضية سويدية لها رغم استمرار حزب العمال الكردي في العمل من الأراضي السويدية.
ولا تحاول روسيا استحمالة تركيا إلى صفها على طول الخط ومصلحة موسكو الاحتفاظ بعلاقات مصلحية معها دون جذبها إلى صفها. وتعلم روسيا يقيناً أن تركيا التي فرض ترومان عليها عام 1946 عضوية الناتو في ظل الحكومات العسكرية الانقلابية الغربية في تركيا ولكن أردوغان حافظ على عضوية الناتو بل إن أردوغان اتجه إلى الاندماج بشكل أكبر في المؤسسات الغربية فتحمس لعضوية الاتحاد الأوروبي لولا اعتراض فرنسا القائم على إسلام تركيا والخوف من زحف الجاليات الإسلامية في أوروبا. وتدرك تركيا أيضاً الصراع الروسي الأمريكي على الأراضي السورية؟
وتلحظ عروض التسليح السخية من موسكو مقابل تمنع واشنطن في هذا المجال، ولكن السياسة التركية في سوريا لا تتطابق مع الأهداف الأمريكية في سوريا.
من ناحية العلاقات التركية – الأمريكية تدرك تركيا أن واشنطن تساند الأكراد وهي الورقة الأكثر حساسية في تركيا، وتعلم تركيا أن إسرائيل تساند الأكراد، كما تدرك أن حال العراق وسوريا يمكن إسرائيل من دعم الأكراد والوقيعة بين تركيا وكل من العراق وسوريا. أما علاقة تركيا بإسرائيل فهي تعكس التوازن بين التضامن التركي مع الفلسطينيين من منطلق إسلامي، وبين مصالح تركيا مع إسرائيل والغرب عموماً خاصة بعد حادث ما في مرمرة أو سفينة الحرية التي حاولت بها تركيا الإسهام في كسر الحصار عن غزة عام 2010 فأدركت تركيا أن مشروعها في المنطقة له حدود وأن المشروع الصهيوني هو الذي تصدى للمشروع التركي وجعل البحر المتوسط تحت هيمنة إسرائيل ولم تعد تركيا في هذا المتوسط خليفة روما يوم كان المتوسط بحر الروم. ولكن تركيا لها مصالح أخرى فى وسط آسيا في منطقة القوقاز وساندت آذربيجان في حربها في ناغورنو كاراباخ كذلك فإن معطيات تركيا في مساندة مسلمي الصين (الإيغور) لا تتطابق ولاتوظف في إطار العلاقات الثنائية بين الصين وواشنطن.
والخلاصة أن تركيا تقف في نقطة التوازن بين ثلاثة محاور الأول محور التوازن الداخلي بين الماضي والحاضر، والثاني بين واشنطن وموسكو، والثالث بين روسيا والغرب فإلى متى يصمد أردوغان في نقطة التوازن الحرجة؟
الملاحظ أنه أعيد انتخاب أردوغان بهذه الوضعية، فهل نشهد انهيار المعادلة أم صمودها وإلى متى؟ وأين تقع المصلحة العربية هل في صمود أردوغان أم في انحيازه إلى روسيا أو الغرب؟
المحقق أن مصلحة العالم العربي تقتضي كسب أردوغان إلى جانب العرب فدخول العرب وتركيا وإيران معاً بلا تنافس إلى القارة الإفريقية وكذلك التحكم في سياسات الشرق الأوسط والعالم العربي في مصلحة الجميع ولابد من اجراء مصارحة شاملة بين العرب والأتراك والفرس لأنهم لهم تاريخ واحد ويسكنون في منطقة جغرافية واحدة وينتمون إلى الإسلام وآن الأوان لكي تعمل الأطراف الثلاثة كوحدة واحدة في مواجهة الشرق والغرب.
بقي أن نشير إلى أن العلاقات التركية الصينية قد تأثرت بسبب دفاع تركيا عن مسلمي الإيغور والمفروض أن الصين تتفاهم مع العالم الإسلامي على طريقة للتعامل مع مسلميها فذلك يفيد الصين في بلورة سياسة شرقية متكاملة في مواجهة الغرب ما دامت الصين وروسيا قد قررت الدخول في صراع مفتوح مع الغرب لإعادة تشكيل النظام الدولي بحيث يكون أكثر توازناً وأكثر عدلاً لكل الأطراف.
مصدر الصور: أرشيف سيتا.
إقرأ أيضاً: تركيا تتخذ الخيار.. لكن معركة أردوغان لم تنتهِ بعد!
السفير د. عبدالله الأشعل
سفير سابق ومساعد وزير الخارجية الأسبق / أستاذ محاضر في القانون الدولي والعلاقات الدولية – مصر