يبدو أن نسق المحاكمة – التي أشرنا إليها في المقالات السابقة – صعب التحقيق؛ ولذلك، فإن خططنا في معالجة هذا الموضوع ستكون على النحو التالي:

1. سنبدأ بحكّام مصر الراحلين، وهم اللواء محمد نجيب والرؤساء المصريين الراحلين جمال عبد الناصر ومحمد أنور السادات ومحمد حسني مبارك.
2. ستقتصر المحاكمة على الحكّام أصحاب الشعارات القومية العالية، مثل الرئيس العراقي الراحل صدام حسين والليبي العقيد معمر القذافي.
3. أما المحاكمة فتقتصر المرحلة الأولى منها على الحكّام الذين كتبوا مذكراتهم، وهم عدد قليل محمد نجيب وأنور السادات لسؤالهم عما ما لم تشمله المذكرات.

محاكمة محمد نجيب

نشر محمد نجيب مذكراته بعنوان “كنت رئيساً لمصر” العام 1984؛ والحق أن كتب التاريخ في عهد الرئيس عبد الناصر كانت تؤكد على أن الأخير يبدأ بنفسه كتاريخ لمرحلة الجمهورية والحكم الوطني بعد قرون من الحكم الأجنبي. ولكن لأسباب معينة، سمح الرئيس السادات بنشر مذكرات محمد نجيب، ولكنه لم يرد إليه اعتباره لأنه كان ضمن الفريق الذي “نكّل” بمحمد نجيب.

ركز اللواء نجيب – في مذكراته – على موضوع واحد وهو أنه كان “نصير الديمقراطية” التي عارضها الرئيس عبد الناصر، واجتهد نجيب في “شيطنة” جمال عبد الناصر ونسب إليه جميع الشرور. ثم أن نجيب امتدح الرئيس السادات عندما سمح له بنشر مذكراته، فأكد الأخير أتى بالديمقراطية التي كان يطمح هو إليها، وهذه نقطة تحسب عليه وليس له. كما ركّز اللواء نجيب أيضاً على أنه ضد الحكم العسكري وضد الانقلابات العسكرية، وأنه يؤيد الحكم المدني، لكن يبدو أنه لم يدرك بأنه قد ادان نفسه.

لم يقل لنا اللواء نجيب ما هو دور الإنجليز والأمريكيين في اسناد الدور له خصوصاً وأنه كان أكبر بكثير من “ضباط يوليو”، وأنه كان عضواً فى الحرس الملكي إذ لم يقل لنا موقفه من الملك. كما أنه أكّد – في مذكراته – أن “ضباط يوليو” جاؤوا خصيصاً لتطهير البلاد من الفساد. أيضاً، لم يقل لنا اللواء نجيب ما هي أسباب تحامل الضباط على حزب الوفد ومصطفى النحاس باشا، ولم يقل لنا كذلك ما هي العلاقة بين كل من اتفاقية الجلاء ومسألة السودان خاصة وأنه ذكر – في بداية مذكراته – أنه من أصل سوداني، وأن المصريين كانوا يتوقعون، في عهده، أن تتحد مصر والسودان معاً، وهو لم يقل لنا ما تردد من أن الضباط تخلوا عن السودان مقابل تعهد بريطانيا بإنهاء احتلالها لمصر باتفاقية الجلاء التي استخدمها الرئيس عبد الناصر ليعتبرها من انجازات هذه الحركة.

بالإضافة إلى ما سبق، لم يقل لنا اللواء نجيب هل كانت حركة “الضباط الأحرار”، 23 يوليو/تموز 1952، ثورة أم كانت انقلاباً عسكرياً، وما دور الانجليز في رحيل الملك فاروق؟ ولم يقل لنا أيضا ما هي علاقة الضباط بالولايات المتحدة، خاصة وأن محمد رفعت باشا أكّد أن السفير الأمريكي في القاهرة، جيفري كافرىي، كان “الأب الروحي” للضباط.

وفي أمر مهم لم يقل لنا اللواء نجيب ما هي طبيعة علاقته بـ “الإخوان المسلمين”، وكيف فهمهم، ولماذا اعتبرهم “انتهازيين” خصوصاً أنهم قد أيدوه في مرحلة، وأيدوا الرئيس عبد الناصر في مرحلة أخرى؛ فما دور السفير الأمريكي بعلاقة الإخوان بـ “ضباط يوليو”؟ ولماذا توقّع اللواء نجيب – في مذكراته – أن يعصف الرئيس عبد الناصر به أولاً، ثم بزملائه في مجلس القيادة ثانياً، ثم بجماعة “الاخوان المسلمين” ثالثاً.

أيضاً، لم يقل لنا اللواء نجيب – في مذكراته – لماذا نكّل به الضباط وحددوا اقامته منذ العام 1954، ولم يقل لنا إذا كان قد انضم إلى الضباط طمعاً في السلطة، وأن التناحر بينهم هو الذي أدى إلى نهايته؟ وهل استغله الضباط بمهمة معينة ثم خرج عن النص؟ وما الفرق بين اللواء نجيب وبين الضباط في قضية الديمقراطية فهو عسكري – مثلهم – لا يصلح للحكم الديمقراطي؟ فلماذا دعا إلى الديمقراطية وعودة الضباط إلى ثكناتهم؟

وفيما يخص الصراع – العربي الإسرائيلي، لم يقل لنا اللواء نجيب معلوماته عن حرب فلسطين خاصة وأنه كان قيادياً كبيرياً في الجيش المصري عندما ذهب الضباط إلى فلسطين، العام 1948.

وأخيراً نتساءل: هل اتيح للواء نجيب – بعد نشر مذكراته – أن يراجع ما تضمنته وما أثارته من أسئلة؟ وهل حقاً أدلى بكل ما يعرفه قبل أن يلقى الله؟ وأنه برَّأ ساحته أم أنه إتُخذ ستاراً لتأبيد الحكم العسكري؟ بقيت كلمة أخيرة: هل كتب اللواء نجيب مذكراته عند وقوع الأحداث أم بعد أن خانته الذاكرة واقترب من النهاية؟ وما هو تعليقه على إسرائيل واليهود المصريين وعلى زيارته للمعبد، التي عاد وأبرزها اليهود المصريين؟

*جزء من كتاب سينشر بعنوان قريباً بعنوان “الحكّام العرب امام محكمة التاريخ”

مصدر الصورة: الجزيرة الوثائقية.

موضوع ذا صلة: الحكّام العرب أمام محكمة التاريخ: ملاحظات عامة

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر