مقدمة
تعتبر البرغماتية هي التوجه الرئيسي الذي يحكم العلاقات الدولية بشكل عام، فكل الدول – مهما اختلفت مبادئها واهدافها وحتى حجمها – تكرس كل الوسائل الممكنة لحماية مصالحها القومية. ولهذا، يمكن القول بأن البرغماتية هي إحدى محركات السياسية الخارجية.
لجهة الجزائر، فهي من الدول التي تمتلك علاقات متوازنة مع مختلف دول العالم تحت مبدأ الحياد واحترام الشؤون الداخلية لكل الأطراف؛ وكغيرها من دول العالم، تمتلك أيضاً مجموعة من المبادئ والأهداف الثابتة ضمن سياساتها الخارجية التي تتسم بقدر كبير من البرغماتية مع الحفاظ على المبادئ ذات البعد القيمي التي تعتبر من محددات الدولة.
بالنسبة إلى إيران، لدى الجزائر علاقات تاريخية معها تمتد منذ فترة حكم الرئيس الراحل هواري بومدين في عهد الشاه. في هذا الإطار، يأتي هذا المقال لتحليل البُعد البرغماتي في العلاقات الجزائرية – الإيرانية وأهميته في الإبقاء على المكاسب متكافئة بين الجانبين.
التطور التاريخي للعلاقات الجزائرية – الإيرانية
يعتبر دعم المفكر علي شريعتي للثورة الجزائرية نقطة مهمة في تاريخ العلاقات الجزائرية – الإيرانية، حيث تم سجنه من قِبل الاستعمار الفرنسي بسبب دعمه للثورة في المحافل الدولية خاصة بعد انضمامه للجهاز الإعلامي في فرع جبهة التحرير الوطني بباريس.
وبعد الاستقلال من الاحتلال الفرنسي العام 1962، كانت الجزائر كغيرها من الدول التي تريد أن تبني علاقاتها الخارجية دائماً تحت شرط الاعتراف الدولي والتبادل الدبلوماسي. وفي هذا السياق، كانت إيران من بين أوائل الدول السبّاقة للاعتراف باستقلال الجزائر، وهذه الأخيرة بدورها كانت من الدول الداعمة لإيران.
لم تقتصر علاقات البلدين على خطابات الاخوة والصداقة فقط، بل امتدت إلى المساعدة المباشرة، فقد توّسطت الجزائر بين كل من إيران والعراق العام 1975، حين تم وضع حد للخلاف الحدودي بين البلدين. وأيضاً عملت الجزائر على رعاية المصالح الإيرانية في واشنطن بعد قطع العلاقات الدبلوماسية الإيرانية – الأميركية العام 1980.
ولم تتعكر علاقات البلدين إلا عندما خالفت طهران مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول والذي يعتبر أحد أبرز مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية. ففي فترة حكومة رضا مالك، رئيس الوزراء الجزائري الأسبق، اتسمت العلاقة بالفتور وانتهى الأمر بينهم إلى قطع العلاقات الدبلوماسية منذ العام 1993، واتهمت طهران بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد قبل أن تعود المياه إلى مجاريها، وكانت إحدى أهم نتائج تلك العودة هي الزيارات المتبادلة بالإضافة إلى استحداث لجنة اقتصادية مشتركة عقدت أول اجتماع لها، يناير/كانون الثاني 2003، في الجزائر.
انبثق عن هذه اللجنة – التي يغطي اهتمامها الكثير من المجالات – توقيع 20 مذكرة تفاهم بين البلدين في العديد من المجالات، أبرزها الصحة الحيوانية والمالية والتعليم العالي والصناعات الصغيرة والتعاون القضائي وتطوير النشاط الاقتصادي بالمناطق الصناعية والاستثمار المشترك في قطاع البتروكيمياويات.
أيضاً، برزت العلاقات الجزائرية – الايرانية منذ استئنافها مطلع القرن الـ 21، ضمن الأوساط الديبلوماسية والإعلامية بسبب النقلة النوعية في تلك العلاقات العميقة، فانتقل الاهتمام من البُعد السياسي فقط إلى الاقتصادي خاصة في مجال الطاقة والغاز، إذ تسعى إيران بالوصول في علاقاتها مع الجزائر إلى بعد عالي من التنسيق والتحالف والشراكة الاستراتيجية، حيث قال المتحدث السابق بإسم الخارجیة الإيرانية، بهرام قاسمي، إن إيران والجزائر “تتمتعان بعلاقات إیجابیة وبناءة على كل الأصعدة والمجالات المتاحة، ولقد أبرمتا نحو 70 وثیقة للتعاون الثنائي حتى الآن”، وأضاف “إنه بالنظر إلى تاریخ العلاقات بین الشعبین، یتوقع أن یكون مستقبل علاقات البلدین في كافة المجالات مشرقا جداً”، واصفا العلاقات القائمة بین البلدین بالبناءة.
وفي الفترة الأخيرة وتحديداً خلال فترة التوتر ما بين الجزائر والمغرب، سلكت إيران تياراً عكس باقي الدول في إعلان تأييدها قرار قطع العلاقات مع المغرب، حيث أعلن السفير الإيراني لدى الجزائر، حسين مشعلجي زاده، مساندة بلاده القرار الجزائري بقطع العلاقات مع المغرب قائلاً إن “الأسباب التي أدت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، يجب أن تحظى باهتمام جدي وأن تلقى الرد المناسب على مخاوف الجزائر بشأن التهديدات الأمنية والمّس بوحدتها وسيادتها”.
وفي شهر سبتمبر/أيلول الماضي (2021) وعلى هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، أشاد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، بموقف الجزائر من تطورات المنطقة، لا سيما الإجراءات تجاه إسرائيل.
بالنظر الى المعطيات السابقة، يمكننا القول أن العلاقات الجزائرية – الإيرانية مستقرة إلى حد كبير، وتحمل في طياتها منفعة مشتركة لكلا الطرفين، فهي علاقة ندية قائمة على تعاون اقتصادي وسياسي يهدف إلى تطبيق مبادئ السياسة الخارجية لكل دولة. وفي هذا الإطار، يجب أن نتطرق إلى المصالح ونقاط الالتقاء بين كل من الجزائر وطهران.
المصالح الجزائرية – الإيرانية المشتركة
تختلف الأبعاد التي تُبنى على أساساها العلاقات الدولية، إذ نجد فيها أبعاد اقتصادية وسياسية ودبلوماسية وعسكرية وحتى ثقافية التي يجب أن تكون كلها لخدمة البلدين؛ فالتعاون الاقتصادي –على سبيل المثال – هو أحد دعائم التحالف العسكري، والتحالف العسكري بدوره يؤدي إلى التوافق السياسي في القضايا المشتركة.
من هنا، يمكن القول بأن هناك خصوصية ما في العلاقات الجزائرية – الإيرانية نظراً لوجود تشابه بينهما في احتياجهما لبعضهما، ليس اقتصادياً أو ثقافياً فقط وإنما دبلوماسياً وسياسياً، فالدول – بمختلف احجامها وأهدافها – تحتاج إلى حلفاء يدعمونها في قضاياها المحورية المشروعة على غرار التعاون الجزائري – الإيراني المشترك في الملفات الاقتصادية لا سيما بعد إبرام اتفاقيات عديدة في هذا المجال الحيوي، بالإضافة إلى تتطابق وجهات نظر الدولتين حول العديد من القضايا العربية الإقليمية والدولية، حيث أن مواقف الجزائر تناغمت مع المواقف الإيرانية تجاه عدة محاور، ناهيك عن وجهة النظر المشتركة حول التحركات المغربية المهددة للأمن الإقليمي لشمال إفريقيا ودعم إيران لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره.
وإذا تحدثنا عن علاقة إيران بالمغرب، يمكن القول بأنها كانت تمتلك علاقات متدهورة، بداية في العام 2009 حيث قطعت الأخيرة علاقاتها مع طهران بعد تصريح مسؤول ديني إيراني بأن البحرين جزء من إيران. وبعد عودة العلاقات، قطعت الرباط من جديد علاقاتها مع طهران، العام 2018، بعد اتهامات لأخيرة بإرسال عناصر من حزب الله اللبناني لتدريب جبهة البوليساريو، التي تطالب بانفصال الصحراء الغربية عن المغرب، وتزويدها بالسلاح، بالإضافة الى الاتهامات المغربية بدور مزعوم لإيران في الصحراء الغربية ترجم بقطع العلاقات، مايو/أيار 2018، واتهامات وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، أمام لجنة الشؤون العامة الأمريكية – الصهيونية “أيباك”، والتي قال فيها إن “الجمهورية الإسلامية الإيرانية تهدّد أمن المنطقة والمغرب، ويجب التنسيق بين الحلفاء لردعها”.
كما زاد توقيع اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل من غضب طهران؛ ففي الوقت الذي تعتبر فيه الرباط اسرائيل المحتلة كحليف استراتيجي مهم، تعتبر كل من إيران والجزائر هذا الكيان محتل ومجرم. وفي ظل كل هذا التوترات ظل التشاور قائماً بين الجزائر وإيران، مع تواصل وزير الخارجية السابق، صبري بوقدوم، مع نظيره الإيراني، محمد جواد ظريف، لمناقشة العلاقات الثنائية بين البلدين وقضايا المنطقة.
في هذا الإطار – وبحسب موقع إندبندنت عربية – صرّح أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية الجزائري، علي ربيج، أنه “يوجد مبدأ في العلاقات الدولية يقول إن عدو عدوي هو صديقي؛ وعليه، فإيران – التي قُطعت علاقاتها مع المغرب – تحاول توظيف تقاربها مع الجزائر التي أعلنت قطع علاقاتها مع الرباط”، مضيفاً أن “التوتر بين طهران وبعض دول الخليج، دفعها إلى اتخاذ موقف مؤيد للجزائر في محاولة للضغط وتوجيه رسائل بأنها موجودة في منطقة شمال إفريقيا وبإمكانها تهديد المصالح الخليجية.”
خاتمة
الجزائر – كغيرها من الدول – تبحث عن تحقيق مجموعة من الأهداف في مقدمتها المحافظة على المصلحة الوطنية بما لا يتنافى مع المبادئ التي تقوم عليها سياستها الخارجية؛ وعلى الرغم من أن الدعم الإيراني للجزائر في القضية المغربية بشكل خاص يبدو في ظاهره تحقيق لمكسب إيراني أكثر منه جزائري في ظل منافستها مع إسرائيل المحتلة ودول الخليج على شمال إفريقيا، إلا أن المنطلق البراغماتي يقول العكس. فإيران تعتبر لاعباً إقليمياً مهماً وله ثقل سياسي، وعلاقاته بالجزائر مبنية على أساس تكافؤ المصالح تحت إطار معادلة “رابح – رابح” للطرفين.
وفي ظل الاوضاع الاقليمية والدولية المتأزمة، تحتاج كلا الدولتين إلى الدعم في القرارات الصائبة والمشروعة لحماية السيادة والأمن القومي. ومن منظور طهران، تعتبر الجزائر قوة إقليمية في شمال إفريقيا لا يمكن تجاوزها، فموقعها في قلب المنطقة المغاربية يشكل محور اتصال بين الشرق والغرب مهم جداً.
في نفس الوقت، يرى بعض المحللين السياسيين أنه وبالرغم من التقاطع الكبير بين البلدين في السياسة الخارجية، إلا أنها تعاني في بعض الأحيان من تباعد في المواقف السياسية، مستشهدين بعدة قضايا خاصة ما تعلق برفض الجزائر المستمر لتدخل إيران في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية، لا سيما لبنان واليمن، على اعتبار أن عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ظل يشكل أحد أبرز مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية.
ختاماً، يمكننا القول أنه وإنطلاقا من المنظور البراغماتي، فإن الجزائر ترحب بالشراكة الإيرانية في إطار العلاقات الدولية المتكافئة بهدف تحقيق مصالح سياسية واقتصادية مشتركة. ولكن في نفس الوقت، إن صانع القرار الجزائري لن يرحب بتنافس أو صراع دولي بين إيران ودول أخرى تمتد من الشرق الأوسط إلى شمال إفريقيا، ولن تكون الجزائر أو شمال إفريقيا ساحة منافسة دولية. فالسياسة الخارجية لكلا الدولتين – على الرغم من توجههم الإقليمي وحتى الدولي – تغلب عليها المصلحة العليا الوطنية.
المراجع:
1. بشير بودلال. العلاقات الجزائرية – الإيرانية وتأثيرها على التوازنات الإستراتيجية في المنطقة المغاربية. المجلة الجزائرية للدراسات الجزائرية. المجلد 4. العدد الأول. الجزائر.
2. وفاء بوكابوس. العلاقات الجزائرية – الإيرانية: التحالف المحتمل. مجلة قضايا آسيوية. المركز الديمقراطي العربي. العدد 4. 2020.
3. علي ياحي. لماذا أيدت طهران قرار الجزائر قطع العلاقات مع المغرب؟ إندبندنت عربية. 1/9/2021.
4. حمزة عتبي. تحليل: ما هي أسباب التقارب الإيراني – الجزائري إزاء الأزمات الإقليمية؟ سي.إن.إن عربية. مايو/أيار 2016.
5. سيدي أحمد ولد سالم. العلاقات الجزائرية – الإيرانية متينة في أغلب مراحلها. الجزيرة. 14/2/2007.
6. علي ياحي. تصريحات “ودية” بين الجزائر وطهران ترسم ملامح علاقات ثنائية جديدة. إندبندنت عربية. 10/8/2021.
7. “70 وثیقة تعاون”… إيران تتوقع مستقبلاً “مشرقاً جداً” مع الجزائر. سبوتنيك. تاريخ النشر 21/01/2019.
مصدر الصور: موقع الرئاسة الإيرانية – سي.إن.إن عربية.
موضوع ذا صلة: العلاقات الإيرانية – المغربية: توتّر سببه “البوليساريو”
طالبة ماجستير علاقات دولية / تخصص دراسات أمنية وإستراتيجية – الجزائر