هناك مجموعة من الحقائق التي نحتاج إلى تفصيلها – في هذا المقام – وبيان الفرق بين حالة فلسطين والأحوال الآخرى عبر التاريخ. الحقيقة الأولى، هي أن إسرائيل تريد كل فلسطين وتريد الأرض دون السكان، علماً بأنها تسللت إلى فلسطين واكتنف تسللها ومسيرتها الكثير من الأكاذيب والأوهام وعلى رأسها أن اليهود يريدون اقتسام فلسطين مع أهلها، فجاء “قرار التقسيم” أخطر هذه الخرافات فأوهم العرب بأن اليهود يريدون أن يعيشوا جنباً إلى جنب مع الفلسطينيين “في سلام ووئام”. ولكن اليهود كشفوا عن نيتهم الحقيقية مؤخراً في نظريات رئيس الوزراء السابق، بنيامين نتنياهو، حول القوة والبطش وسحق العرب كأساس لشرعية إسرائيل.

الحقيقة الثانية، مترتبة على الحقيقة الأولى بأن إسرائيل تعتبر المقاومة ضدها أكبر عقبات مشروعها؛ ولذلك، تسعى بكل الطرق إلى أزالتها، وقد نجحت – إلى حد كبير – في تأليب الوسط العربي عليها حتى تماهى الموقف العربي منها مع ذاك الإسرائيلي.

الحقيقة الثالثة، إن الانقسام بين السلطة الفلسطينية وبين المقاومة ليس اختلافاً في المنهج، وإنما هو خلاف حول العقيدة السياسية. فالسلطة ترى أنه لا قِبل لها بإسرائيل، وأن تحالفات الأخيرة تجعل من المستحيل هزيمتها وأن المقاومة لا جدوى منها بل هي استفزاز لإسرائيل وعقبة في سبيل توحيد الموقف الفلسطيني وسيطرة السلطة على كل فلسطين؛ ولذلك، فالشقاق بين السلطة وبين حركة “حماس” – بالتحديد – هو أعمق من أن تتجاوزه النظريات والمناهج الساذجة بالنظر إلى طرق دمج الطرفين في موقف واحد خاصة وأن العالم العربي يدعم السلطة ومواقفها تقرباً من إسرائيل والولايات المتحدة أولاً، ومن الناحية الشكلية ثانياً أن الخليج تم تأليبه ضد إيران مع خلفية تميل لإسرائيل في صراعها مع إيران لسبب بسيط وهو أن واشنطن هي الحامي لدول الخليج والداعم الأساس لإسرائيل في وقت تواجه فيه مشاكل من تمرد إيران على نفوذها في المنطقة.

من هنا، فهي تؤلّب دول الخليج عليها، وفي نفس الوقت تتقارب هذه الدول – بل أحيانا تتحالف – مع إسرائيل في ترتيب المواجهة العسكرية ضد طهران وهي على يقين بأن هذه المواجهة – أن حدثت – سوف تقضى على إسرائيل، وأن الأخيرة وواشنطن تعلمان ذلك علم اليقين. لذلك، فإن هذه المواجهة هي مجرد “تحرش” يستحيل أن تحدث.

الحقيقة الرابعة، أنه من الطبيعي أن تساير السلطة إسرائيل في منطقها خصوصاً لجهة التعاون ضد المقاومة فيما يعرف بـ “التنسيق الأمني”، وكذلك فيما يعرف بالمفاوضات، وهي في الواقع مفاوضات عبثية لأن إسرائيل أعلنت أنها مفاوضات من أجل التفاوض فقط. ثم أعلنت مؤخراً أن المفاوضات لا تجري إلا مع شخص مستعد للتفاوض مع إسرائيل على شروط تسليم فلسطين، ويبدو أن الرئيس الفلسطيني، محمود عباس – أبو مازن، يعتقد جازماً أن رضى إسرائيل عنه هو السبب في بقائه بالسلطة وإلا فإن مصيره سيكون كمصير الرئيس الراحل ياسر عرفات.

هذا ومما لا شك فيه، فإن إسرائيل تذكي الصراع بين المقاومة والسلطة حتى يقع الرئيس أبو مازن في شباكها وتحت رحمتها، فقد كانت إسرائيل تعلن – في البداية – أن هدف المفاوضات هو ايجاد تسوية والاتفاق على شروطها، ثم أصبحت فيما بعد هدفاً بحد ذاتها من دون أهداف أخرى، أي أن المفاوضات بدأت مجرد وسيلة لهدف ثم أصبحت هدفاً في ذاتها لتصبح أخيرا وسيلة لهدف إسرائيلي نهائي.

الحقيقة الخامسة، أنه من الطبيعي أن ترفض المقاومة الاعتراف بإسرائيل في هذا الوضع؛ ولكن في الظروف العادية، يمكن للمفاوضات أن تقوم بين المقاومة وبين الطرف الأخر إذا كان الأخير أجنبياً بعيداً لا يريد التهام الأرض. وقد حدث في التاريخ أمثلة للهذه الحالة، فقد تفاوضت الثورة الجزائرية مع فرنسا وتفاوض الثوار في فيتنام مع الولايات المتحدة. لكن الفرق بين حالة فلسطين والأحوال الأخرى هو أن إسرائيل ليست دولة خارج فلسطين، مثل الولايات المتحدة أو فرنسا، وإنما قامت على “جثة” فلسطين؛ بالتالي، من حق المقاومة أن ترفض هذا الكيان الغاصب، وترفض الاعتراف به. وإذا كان اليهود الغزاة يريدون كل فلسطين، فمنحق المقاومة – من باب أولى وهي صاحبة الأرض – أن تطالب بكل فلسطين، وليس هذا تطرفاً أو تعنتاً وإنما هو حق نقرره للمقاومة.

أيضاً، من حق المقاومة أن ترفض المفاوضات إذا كان هدفها وضع شروط تسليم فلسطين لإسرائيل، ولكن في الظروف العادية يمكن للمقاومة أن تتفاوض على شروط إخراج الطرف المحتل لأرضها. وفي حالة فلسطين، يمكن للمقاومة أن تقبل المفاوضات مع إسرائيل بشرط أن تكون للمفاوضات مرجعية مشروعة، فقد قبلت فلسطين “قرار التقسيم” وقبل الرئيس عرفات الاعتراف بإسرائيل بلا تحفظات، وتستطيع المقاومة أن تعترف بإسرائيل شريكاً في فلسطين وليس غاصبا لها إذا كانت المفاوضات إيجابية وتؤدي إلى تحقيق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؛ ولذلك، من حق المقاومة أن تخطط لهزيمة إسرائيل المحتلة وطردها كل فلسطين مثلما أعلنت إسرائيل أنها تريد حرمان الشعب الفلسطيني من مقاومته ليسهل ابتلاع الأرض وطرد السكان.

الحقيقة السادسة، إذا كان الشقاق بين السلطة والمقاومة على هذا النحو، فإنه يستحيل التوصل إلى موقف فلسطيني واحد إلا إذا تخلت السلطة عن “اتفاق أوسلو” الذي لا تعيره إسرائيل أي اهتمام بل وبطل بسبب انصراف نية إسرائيل الحقيقية إلى عكس ما تضمنه. فالصراع بين المقاومة – من ناحية – وبين كل من السلطة وإسرائيل – من ناحية أخرى – صراع وجودي وليس صراعاً سياسياً عادياً، ولا بد من هزيمة طرف حتى يسود الطرف الآخر، كما يستحيل التواصل إلى تسوية بين الطرفين لاقتسام المنافع والخسائر.

الحقيقة السابعة والأخيرة، هناك سؤال يطرح نفسه: هل يضير المقاومة أن ترفض المفاوضات مع إسرائيل والاعتراف بها؟ أوضحنا الاجابة عن هذا السؤال في سياق تحليلنا لموقف المقاومة من إسرائيل والسلطة، والسؤال الأخير هل يضير المقاومة أن تبرم مع إسرائيل اتفاقات لوقف إطلاق النار رغم أن الأخيرة هي المعتدية وأن الكف عن العدوان يجب أن يكون من طرف واحد وهو إسرائيل؟ الاجابة هي أن المقاومة من حقها أن تتفاوض مع إسرائيل حول شروط اطلاق سراح الأسرى وعمليات وقف اطلاق النار، ولا يعد ذلك اعترافاً بإسرائيل.

ومن حق المقاومة أيضاً أن تبرم هدنة طويلة الأجل مع إسرائيل، ولا ينال ذلك من قدر المقاومة – كما روّج البعض في الآونة الأخيرة – لأن الهدنة طويلة الأجل تعني فرصة للمقاومة كي لا تعتدي على غزة وعليها، ولكنها تدرك جيداً أن الهدنة مرتبطة بما تراه إسرائيل من منافع لها خاصة وأن المقاومة – كما سبق أن أوضحنا – لها وظيفتان الوظيفة الأولى السعي لازالة الاحتلال من كل فلسطين، والثانية صد العدوان على غزة؛ ولذلك، فإن الهدنة طويلة الأجل هي في مصلحة المقاومة.

مصدر الصور: إندبندنت عربية – العربي الجديد.

موضوع ذا صلة: مقترحات لإنهاء حصار غزة

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر