تعتبر السياسات الأوروبية والأمريكية متقاربة في كثير من الأحيان، خاصة فيما يخص التحركات تجاه روسيا، حيث عجزت الدول الأوروبية عن الخروج من مظلة الولايات المتحدة الأمريكية منذ نهاية الحرب الباردة.

وبالعودة إلى تاريخ العلاقات الدولية، كانت دول أوروبا الغربية – تحديداً – تشكل القطب الأقوى المهيمن، حيث أنها تسيطر على مجموعة من المستعمرات في شتى أنحاء العالم؛ وكانت تلك الدول هي من تضع قوانين اللعبة الدولية، لكن الوضع تغير منذ الحرب الباردة وصولاً إلى انفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم.

في وقت مضى، كانت أوروبا ساحة صراع بين السوفييت والأمريكيين، والآن أصبحت هي ساحة صراع بين روسيا والولايات المتحدة. فاليوم، لا تتخطى سياسات هذه الدول الأوروبية كونها استمرارية لسياسات الولايات المتحدة، حيث تقع دول أوروبا حالياً في مأزق أمام الصراع الأمريكي – الروسي المتجدد. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هي تداعيات هذا الصراع على أوروبا؟ وهل ستتحرر أوروبا من التبعية السياسية والأمنية للولايات المتحدة؟

تسعى الدول الأوروبية – من خلال الاتحاد – إلى استرجاع عهد قوتهم وهيمنتهم القديمة، فهدف الاتحاد الأوروبي الأساسي هو تحقيق تكامل اقتصادي وسياسي وصولاً إلى وحدة أوروبية كبرى.

مؤشرات إقتصادية كثيرة كانت تدعم فكرة أن المجموعة الأوروبية من بين القوى الدولية المؤهلة لتكون قطباً أساسياً في النظام الدولي، لكن الاختلاف في التوجهات والرؤى السياسية لدول الاتحاد حالت دون الوصول إلى قطب عالمي موحّد بقرار سياسي مشترك، وهذا يعود إلى تعارض مبادئ وأهداف كل دولة سياسياً وحتى أمنياً.

بالاضافة إلى ذلك، إن الضغط الذي تتعرض له دول أوروبا الغربية – من قِبل الولايات المتحدة تحت اطار التحالف والتعاون الأمني المشترك وحتى فيما يخص السياسات – يصب في خدمة واشنطن ومصالحها، مع أن الأخيرة تعمل على التوفيق بين سياستها وسياسات الدول الأوروبية لتكون داعمة لها في النظام الدولي أمام القوى الشرقية الصاعدة (روسيا، الصين، إيران…).

من هنا، تعتبر الأزمة الاوكرانية الحالية وتمدد حلف الناتو أبرز مثال على المأزق الذي وقعت فيه الدول الأوروبية أو الاتحاد الأوروبي بسبب التحالف مع الولايات المتحدة، الذي يحقق مكاسب أمريكية على حساب كبح التوسع أو تزايد قوة الاتحاد.

بالنسبة إلى حلف شمال الأطلسي – الناتو، فكل يعلم بأن تأسيسه جاء على خلفية مواجهة المد الشيوعي وتحت ذريعة حماية الدول الأوروبية، فلطالما كان يشكل منصة أمنية لتحقيق مصالح الولايات المتحدة، وسبباً للإبقاء على التواجد العسكري الأمريكي في أوروبا وحصار الاتحاد السوفيياتي، من جهة، وكبح جماح الدول الأوروبية، من جهة أخرى.

لقد استطاعت الولايات المتحدة إقناع الدول الأوروبية بأهمية الإبقاء على الحلف بوصفه الركيـزة الأساسـية الاستراتيجية الغربية، وبذلك تمكنت الولايات المتحدة الإبقاء على ريادتها العسكرية على حساب دول أوروبا، فضلاً عما يتيحه الحلف لها من إمكانية التدخل والتأثير في السياسات العسكرية والأمنية للدول الأوروبية.

الآن، تقف أوروبا ككل أمام مأزق أمني حقيقي وكبير لجهة التهديد الروسي بامكانية اجتياح أوكرانيا، وذلك بحسب المعلومات والادعاءات الأمريكية؛ فموسكو – بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين – تصر على ضرورة توقف التقدم الأمريكي – حلف الناتو تحديداً – نحو الشرق الأوروبي أي على حدود روسيا الغربية، وقد قابلت الولايات المتحدة هذا المطلب الروسي بالرفض لأنه واشنطن تعتبر المجالات أو المناطق التي تسعى موسكو للاستيلاء عليها والسيطرة فيها هي دول مستقلة وذات سيادة، وأن محاولات روسيا لإبقاء السيطرة عليها غير شرعية.

أيضاً، تصر الولايات المتحدة – وحتى حلفاؤها من الدول الأوروبية – على مشروعية سياسة الحلف تجاه دول شرق أوروبا أو الجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، وهي ما يسمى بسياسة “الباب المفتوح”، ويقصد بها باب العضوية أو الانضمام المفتوح أمام هذه الدول، مع تقديم ضمانات ووعود لحماية أمنها ودعمها.

لكن اذا رجعنا بالتاريخ، إن فكرة توسـيع الحلف هي فكرة أمريكيــة وليست أوروبية وطرحت في أوائل العام 1994، من خلال إصدار الكـونغرس الأمريكي قانون “المشاركة في الناتو” والذي أُعلن عنه الرئيس الأمريكي الأسـبق بيـل كلنتـون في حملته الانتخابية.

لهذا، تعتبر أوروبا هي المتضرر الأول والأكبر من الاصرار الأمريكي على توسع حلف الناتو، ومن الصراع مع روسيا، فأوروبا ترجّح الحل السلمي لأنه يحقق لها مصلحتها دون اللجوء إلى العسكرة التي تروج لها واشنطن عن طريق الدعاية والاعلام.

على سبيل المثال، تؤكد ألمانيا على موقفها الحازم من الأزمة الأوكرانية، حيث يُبدي المستشار الألماني الحزم نفسه مثل الولايات المتحدة، مؤكداً – في مختلف المناسبات – على أن كل تعدٍ روسي على أوكرانيا ستدفع موسكو “ثمنه باهظًا”. لكن وحسبما قال أولريش شبيك، خبير في مركز “جيرمان مارشال فاند” للدراسات في برلينفإن – على موقع “تويتر” فإم موقف المستشار بشأن التوتّر مع روسيا يقع ضمن الحد الأدنى، فهي تصريحات عامة قصيرة جداً ومُنمّطة وغالباً – فقط – تأتي رداً على أسئلة.

هذا الموقف يدل على التردد الألماني أو التأني في التصريح بسبب العلاقات التي تجمع بين موسكو وبرلين، خاصىة مسألة خط نقل الغاز “نورد ستريم – 2″، الرابط ما بين روسيا وألمانيا والذي تعتقد هذه الأخيرة أنه يجب أن يبقى خارج نقاش الملف الأوكراني.

على الجانب الفرنسي، تعمل باريس على تكثيف الجهود الديلوماسية لحل الأزمة بين كييف وموسكو بطريقة سلمية، حيث التقى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نظيره الروسي في موسكو لمحاولة الخروج من الأزمة وخفض التصعيد الحاصل في ظل شحن مكثف للقوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا يقابله إصرار امريكي على مشروعية التوسع الأطلسي في أوروبا الشرقية.

على الرغم من كل المؤشرات التي تدل على الرغبة الأوروبية للتحرر من المظلة الأمريكية، إلا أن حجم المصالح والتاريخ المشترك بين الطرفين تدلان على عمق العلاقات بينهما بحيث لا يمكن لأوروبا أن تنكر المصالح التي حققتها بفضل التحالف مع الولايات المتحدة؛ وحتى الحلف الأطلسي، فهو يحقق مكاسب أوروبية إلى حد كبير.

وإذا نظرنا إلى الموضوع من ناحية أخرى، من الممكن القول بأن كل الجهود الاوروبية تصب في خانة تسوية الأزمة مع أوكرانيا، وهي محاولة لضبط التوازنات في ظل الحزم الأمريكي. فهناك احتمالية أن تكون السياسات الأوروبية – الأمريكية توافقية وتكاملية فيما يخص أزمة روسيا – أوكرانيا وذلك للحفاظ على مكانة واشنطن في المنطقة وحماية مصداقيتها – خاصة بعد تراجعها من أفغانستان – وفي نفس الوقت الحفاظ على المصالح الأوروبية.

المراجع:

1. سعدي كريم سليمان. العلاقات الأوروبية – الأمريكية في القرن الحادي والعشرين. مجلة دراسات دولية. العدد 25.
2. د م. الأزمة الأوكرانية: ماكرون في موسكو للقاء بوتين. فرانس 24. 7/2/2022.
3. د م . لماذا تثير علاقات ألمانيا مع روسيا استياء أوكرانيا؟ DW. 23/1/2022.
4. أنظر:
James Dobbins. Should NATO Close Its Doors? The RAND. 2.2.2022. On: https://bit.ly/35PThUS

مصدر الصورة: USA Today.

موضوع ذا صلة: الغرب – أوكرانيا.. بين “العصا والجزرة” الروسيتين

شروق مستور

طالبة ماجستير علاقات دولية / تخصص دراسات أمنية وإستراتيجية – الجزائر