على أبواب تجديد البيعة إلى ممثلين للشعب لولاية جديدة للمجلس النيابي، وفي ظل الحماوة الشعبوية التي يلجأ إليها المرشحون، كثرت الشعارات والوعودات والبرامج الإنتخابية، ومنها ما هو فوق القدرة على التنفيذ. وتسود مؤخراً، في الإجتماعات المغلقة، وأكثرها من اللون الواحد لكل جماعة، حالة من التصويب على “الآخر”، وصولاً إلى تعبئة مستهجنة ضد هذا الآخر يستفيد منها المحرضون بهدف الوصول إلى الندوة النيابية، ضاربين بعرض الحائط كل مقومات العيش المشترك والولاء للوطن، أهكذا تبنى المواطنة؟

في تعريف المواطنة؛ هي فعلٌ يقوم على التفاعل، مثلها مثل المسامحة والمصافحة والمقاومة والمصارحة، الخ… والمواطنة تشير “صراحة وضمناً، إلى الشعور الوطني أو الإنتماء إلى الوطن، والإستعداد للدفاع عنه، وعن كرامته واستقلاله” – وفق تعريف عميد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية الدكتور سليم حبيب. أما قاموس علم الإجتماع فيعرِّف المواطنة بأنها تلك العلاقة الإجتماعية التي تقوم بين الفرد “الذي يقدم الولاء” والدولة “التي تقدم الحماية”. وهذه الحماية المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها يجب أن تعني صون حقوق المواطنين على قاعدة العدالة والمساواة وحقوق الإنسان التي يكفلها الدستور وفي أجواء الديمقراطية والحرية. ومن وجهة النظر القانونية يمكننا التمييز بين ثلاثة مستويات في المعنى القانوني للمواطنة: المستوى الأول، الإلتزام الآلي، والثاني الإلتزام الحقوقي، والثالث البنائي.

هذه المستويات الثلاث تستحق التأمل، ليس فقط على المستوى النظري أو ثرثرة دستورية، لأن العبرة دائماً في التطبيق. فالوصول إلى دولة المواطنة يفترض التنبه إلى الجانب التربوي التوجيهي لإكتساب المواطنة، والتعرُّف إلى قيم المواطنة والقيم المدنية وكل ذلك يتم بواسطة مؤسسات رسمية ومدنية. ومن أبرز القيم المرتبطة بالتنشئة المدنية نذكر: الحرية في مواجهة الإستبداد، المساواة في مواجهة التمييز، تطبيق القوانين في مواجهة الفوضى، الإلتزام بالمصلحة العامة أو الشأن العام في مواجهة الأنانية، المشاركة الإيجابية في خدمة المجتمع في مقابل السلبية والإنعزال والعشائرية والطائفية والمذهبية.

إقرأ أيضاً: إلى الناخب اللبناني: ما نفعنا بدون هويّة؟ لبنان أولاً

إن المشاركة في الحياة الوطنية مسالة تساعد على الإندماج الطوعي. وعلى السلطة عدم التعامل مع أية فئة اجتماعية كطائفة او عشيرة، وعدم إشعارها بعقدة الأقلية. فابناء الوطن ليسوا رعايا، بل مواطنون متساوون مع أقرانهم في الحقوق والواجبات. والمواطن، فطرياً، مستعد لتقديم الولاء للدولة، إذا كانت مستعدة لتقديم الحماية والأمن الإجتماعي والصحي والتربوي أسوة بباقي المواطنين.

جذور المواطنة

لم يكن لبنان، مثله مثل الكثير من الدول الحديثة، وليد ارادة أبنائه في العيش معاً، لقد تألف من جماعات طائفية مقيمة على أرض واحدة ومتجاورة، في تقارب مرة وتباعد مرة أخرى. جاءت تلك الجماعات من التاريخ العثماني، وفيما بدّدت نشأة لبنان شيئاّ من الحيرة والمخاوف التي اعترت البعض، انضم البعض الآخر اليه، أو ضُمّ، من دون حماس يذكر، وأقام طويلاً على التردد وازداوج الموقف. لم تخرج الجماعات كلها من مرحلة الإنهيار العثماني وهي مطمئنة إلى مستقبلها، غير أن المجتمعات الأهلية، وما سادها أو قادها من ورثة الزعماء والوجهاء الجدد، رضيت مختارة أو مضطرةً، إلى إقامة علاقات جديدة فيما بينها، ونمت تلك العلاقات الجديدة بفعل الإختلاط والجيرة، في السكن والعمل، والإشتراك في حياة سياسية أولية واكتساب طرائق عيش متقاربة.

بين الهوية الوطنية والإنتماء إلى الجماعة

لم يصنع الخروج من العوالم التقليدية بقوة ذاته مواطنين لبنانيين. صحيح أن أهل لبنان باتوا لبنانيين، وإن لم تكن لبنانيتهم واحدة في السياسة والثقافة، فقد ألّفوا، كل على طريقته، بين الهوية الوطنية وبين الإنتماء إلى الجماعة الطائفية؛ أي بين وعيٍ للذات الجمعية أقرب إلى الرخاوة وآخر يبدو أكثر صلابةً. وحالَ النظام السياسي القائم على التوازن بين الجماعات وتوزيع المناصب بين ممثليها دون تحقيق ما كان يدعى انصهاراً أو اندماجاً وطنياً. بقي اللبنانيون متأرجحين بين النزعة إلى المساواة بينهم ووحدة الأهداف الوطنية وبين الدفاع عن جماعاتهم الخاصة ومصالحها المفترضة. وفي الأعم الأغلب، تواصل ذهاب اللبنانيين وإيابهم بين قطبي الوطن والطائفة. ورغم السجالات حول الهوية اللبنانية، اتسع نطاق العيش معاً وانفتحت أمام الأفراد عدة مجالات لنوع من الإستقلال عن الجماعة.

لم تصبح المواطنة حقيقة ظاهرة وفاعلة في ظرف محدد، أو مناسبة بعينها، لكن جذورها نبتت في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، إلى أن عصفت بها الحرب اللبنانية و”الملبننة” – والتعبير للوزير السابق والمبعوث الأممي طارق متري – منذ عام 1975، فعاد الإنتماء إلى الرسوخ في أرض الجماعات واقترن الفعل السياسي، فضلاً عن المواجهات العسكرية، بتفوق الإنتماءات الطائفية على المواطنة المستجدة. ومما زاد في الطين بلّة عجز اللبنانيين عن التلاقي حول بنى ورموز وطنية توحّد بينهم، فضلاً عن لجوئهم، طوعاً أو قسراً، إلى طلب الحماية الفعلية أو المعنوية من طوائفهم، أي من القوى المسيطرة عليها والمستبدة في تسيير شؤونها.

غير أنه، وبفعل شتداد النزاع على السلطة، ومعه مشكلات التفاوت الإجتماعي وتلاقي التدخلات الخارجية مع الرغبة في الإستعانة بها، جاءت تفجرات لبنان طائفية بمقدار كبير، وخاصة بعد العام 1975، فبات كثيرون يردون على الطائفية بالطائفية وكانها داءٌ ودواءٌ في الوقت عينه، وفي ظنهم صارت وكانها حامية ضحاياها، لكن فئة أخرى نظرت إليها، لا سيما في جولات الصراع المسلح، وكانها تفترس أبناءها.

المواطنة ..السيادة .. والحياد

“الولاء من المواطن والحماية من الدولة”، فواجب الحماية لا يتحقق فقط بسيادة الدولة على أرضها، ولكن وفي ظل الأحادية التي تحكم العالم اليوم وتداعيات نظام العولمة الذي يُخضع السيادة إلى تحكّم منظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وبروز عالم التكنولوجيا الجديدة بما اعتمد بتسميته “الذكاء الإصطناعي” قلل من منعة الدولة الخارجية، وأصاب بلدنا في كيانيته، وهذا يتطلب تفاهمات بين الطوائف والمجموعات المكونة للوطن الذي نال “الغطاء الدولي” لقيامته منذ تأسيسه؛ وفي هذا الشأن، كتب يوسف السودا، العام 1924، في كتابه “في سبيل لبنان” أنه “ليس من ينكر على لبنان كفاءته واهليته للإستقلال بعد أن اعترف به الحلفاء لشعوبٍ في الغرب وفي الشرق أيضاً وهي قد لا تفضّل لبنان بشيء.. وإذا وضع استقلال الشعوب الصغيرة في ذمة القانون الدولي واخذت كل دولة على نفسها احترامه وإيجاب احترامه على سواها بات ذلك الإستقلال في مأمن من طمع الطامعين ولم يعد من ثم مسوّغ لخوف الخائفين إشفاقاً على لبنان من ان يعجز من صون استقلاله.”

وقد تنادى معظم اللبنانيين أمام الأزمة الصعبة التي تعانيها البلاد اليوم إلى حياد لبنان، فهل من طريق للحياد في ظل عدو يتربص بجنوبنا ومواردنا من مياه وثروات نفطية وهو الذي ما زال يحتل أرضنا؟

في مؤلفه “نافذة على العالم”، كتب كمال جنبلاط: “لا يمكن البقاء على الحياد وسط ما يشهده العالم من أحداث؛ فكيف يمكن لأحد أن يبقى على الحياد بين الحق والباطل، بين الجهل والمعرفة، بن الظالم والمظلوم وبين الوطنية والعمالة، وبين السيادة والتبعية. الحياد الحقيقي بالنسبة لنا هو عدم الحاق الأذى بالغير، وعدم التدخل بشؤونهم الداخلية، وفي هذا المعنى لا يستطيع اللبنانيون أن يكونوا أصحاب مصالح آنية او شخصية أو فئوية لا أصحاب مبادئ كما يفترض فينا أن نكون.”

الطائفية والمواطنة

الواقع الذي نعيشه اليوم يقودنا للقول بأن معظم من يمثلون الطوائف اللبنانية في الدولة مهتمون أولاً بالصراع عليها، ويقيم بعضهم دولة ضمن الدولة وخارجها، ولهم سياساتهم في كثير من نواحي الحياة وعلاقاتهم الخارجية، بما تحتمله من ولاءات وانحيازات، كما كوّنوا منظماتهم الأهلية ونالوا حصصاً فيما يطلق عليه نعت “المجتمع المدني”، ويتصرفون اذا اقتضى الأمر كأصحاب سلطان أشداء يهددون ويردعون ويحرّمون ويخوّنون.

إقرأ أيضاً: التمثيل الطائفي في النظام السياسي اللبناني.. النشأة وآفاق الحلول

في المقابل، لم تعرف الحياة السياسية في لبنان نمواً يذكر لحركات عابرة للطوائف أو جامعة لأبنائها، واستمر تراجع “العيش المشترك” وصار التشديد على “وحدة لبنان” بمثابة تعويض رمزي صغير عن هشاشة الرابطة المطنية، غير أن الثقافة المشتركة، وإن غاب تعبيرها السياسي أو تعثّر، تظل مشدودة إلى قضيتي المواطنة والدولة، وهي علاقة جدلية فالمواطنة تقوم على وعي أكبر بالمساواة بين الناس الذين يعيشون على أرض واحدة.

في الخلاصة، لا شك أن النمو الهائل لوسائل التواصل الإجتماعي، إذا ما أُخذ في منحاه الإيجابي، قد أسهم في تعميم المعرفة، وزاد من حسن وسِعة الإطلاع، وهي فرصة ينبغي توظيفها في صناديق الإقتراع، ولا شك من أن مجالات جديدة، بفضل سهولة انتشار وسائل التواصل، انفتحت أمام الحرية والمبادرة واللقاء والتعاضد في فضاءات بعيدة عن الإنقسامات الطائفية، وقد أفرزت انتفاضة العدالة في السنوات الأخيرة فئة وطنية آخذة بالإتساع، تخرج من الكتل الطائفية المتراصة، وتتحرر من الإنقياد الأعمى ولا ترضى بذوبان حرية الفرد في انتظام الجمهور.

ولعل في العودة إلى مندرجات الدستور ما بعد تعديلات “إتفاق الطائف”، وصولاً إلى تحقيق مجلس نيابي منتخب من خارج القيد الطائفي وحفظ حقوق الطوائف بمجلس شيوخ، يضع المواطنة الصحيحة على سكة النهوض بالوطن واعادة الهيبة إلى الدولة المكوّنة على أساس من الحرية والمساواة.

مصدر الصور: الحرة – سي.أن.أن عربية.

العميد م. ناجي ملاعب

باحث في مؤسسة الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري / عضو الهيئة العلمية لمجلة الدراسات الأمنية – لبنان.