شارك الخبر

في هذه المقالة، نجري مراجعة جذرية نقدية للفكر القومي في اجماله وتجربته خلال 50 عاماً، وما أدى إليه من تطبيقات وفهم خاطئ يتناقض مع معنى العروبة باعتبارها ثقافة؛ ولذلك، جاءت العروبة والإسلام متناغمتين: فالعروبة جسد والإسلام روح. ولهذا السبب، يبدو أن الله اختار رسوله الخاتم من العرب، فالعروبة مرتبطة بالأمة الخالدة؛ ولذلك، فإن هذه المقالة تهدف إلى اصلاح الفكر القومي حتى يسمو إلى مستوى سمو الأمة، ولكننا يجب أن نرسي مجموعة من الحقائق التي كشفت عنها التجربة العربية في نصف قرن.

الحقيقة الأولى، أن الدول العربية لم تعرف في عمومها فكرة الدولة إلا شكلاً، ولذلك كانت النُظم العربية تتسم بالطابع الأُسري أو الشللي أو الشخصي، وعاشت هذه النُظم على قدر مفهومها للوطن وخططت علاقاتها الخارجية بحيث تحصل على فائض السلطة بما يسعد الخارج، فانتهى بها الأمر إلى أزمة الحكم المستعصية في المنطقة العربية.
الحقيقة الثانية، إن العداء للغرب لم يجلب الاستقرار والديمقراطية وإنما جلب مصادمات عبثية بين بعض الحكام العرب والغرب، الذي حرص على أن يكون الحاكم “رغم أنفه” وكيلاً بشكل ما للمصالح الغربية، بما فيها الشعارات القومية التي كانت متناقضة وتكشف عن مفهوم سطحي للفكر القومي.
الحقيقة الثالثة، إن كافة النُظم العربية فهمت – دون لبس – حقيقة إسرائيل؛ ومع ذلك، أغمض البعض أعينه عن هذه الحقيقة مقابل مساندة واشنطن لنظامه، فأصبحت مصلحة النظام خصماً من مصلحة الوطن. والطريف أن الحاكم العربي يعتقد أنه يُدافع عن الوطن واستقلاله ضد من يتربصون به، فأضحت “نظرية المؤامرة” أساساً لبطش الحاكم بشعبه ونهب ثروات البلاد لدعم نظامه الذي يعتقد أنه “حارس” للوطن.
الحقيقة الرابعة، تعتبر إسرائيل مشروعاً استعمارياً استيطانياً احلالياً، وأنه يهدف ليس فقط إلى اغتصاب فلسطين وإنما القضاء على العروبة وأولويات الشعوب العربية. فقد كانت مخططات إسرائيل ضد الأوطان العربية كاشفاً لزيف الشعارات التي رفعها الحكام العرب، وكانت النتيجة أن تغولت إسرائيل في المنطقة العربية وحوّلت الحكام العرب المعادين لها – في الشعارات – إلى حلفاء ضد الأمة العربية.

إقرأ أيضاً: إصلاح الحاكم والمحكوم في العالم العربي

الحقيقة الخامسة، إن أعلى الشعارات القومية صدرت من الحكام الذين رفعوا راية الاستقلال الوطني ومحاربة الامبرياليه والصهيونية، وكانت النتيجة أن هذه الشعارات لم تعكس قدرات حقيقية لدى هذه الدول بل إن هؤلاء الحكام استغلوا هذه الشعارات لدغدغة مشاعر الشعوب، فكانت الدكتاتورية العربية التي جلبت التخلف للشعوب وتفريغ انسانيتها وتدريبها على العبودية مدخلاً للهزيمة النفسية العربية أمام “الشمشون” الإسرائيلي، فقنع الحكام العرب بالتمسك بعروشهم والتضحية بأوطانهم وتستروا على نهب الموارد والفساد من كل نوع والتظاهر بالمثالية الوطنية التي قسّمت الشعوب العربية بين الحاكم والوطن؛ فكل من يغلب مصلحة الوطن يعتبر عدواً للحاكم، ولقد نبّه بعض رجال الدين إلى فكرة ولي الأمر في القرآن الكريم لتبرير مصادرة الحريات والأرواح والأرزاق للمعارضين للحاكم، بل إن بعضهم أطلق صيغة بلهاء: “من اعترض انطرد”، أي انطرد من الوطن ورحمة الله فخسر الدنيا والآخرة.
الحقيقة السادسة، إن “عبادة” الحاكم الوطني – رغم فشله في انهاض الوطن والاخلاص له وتنمية مقدراته من جانب جموع عريضة من الشعوب العربية – حالت دون الاخلاص في عبادة الله أو توقير الوطن، فسقطت هذه الشعوب بين فئتين من الطامعين في السلطة والثروة، وهما العصابات المسلحة والمافيات والعصابات الدينية؛ وبذلك، صار التحوّل إلى الحكم المدني القانوني ضرباً من المحال في المنطقة العربية.

هذه أرضية لازمة لتحديد ملامح الفكر القومي الجديد الذي به تنهض الأمة ويسترد الانسان العربي عقله وضميره وانسانيته وتتكامل المقدرات العربية، وتصبح أمة غالبة وليست مغلوبة. من هنا، إن مفتاح كل التطورات هو اصلاح الحاكم العربي ومن بعده المحكوم العربي، وهذه ورشة لانهاض هذه الأمة من كبوتها، وبغير ذلك فأننا “نحرث في البحر”.

من خلال كل كا سبق، يمكن القول بأن مقومات الفكر القومي الجديد تقوم على المبادئ الآتية الحاسمة:
المبدأ الأول: استقلال القرار الوطنىي في أساسه ولا مساومة على هذا الاستقلال لمصلحة النظام، أو أن يكون الاستقلال شعاراً فقط بينما يضغط الخارج عليه أو يسقط نظامه الهش القائم على ساقٍ واحدة.
المبدأ الثاني: أن يكون الحكم مدنياً فلا عسكرياً ولا دينىاً، وأن يقوم الحكم على القانون الصحيح والمؤسسات المنتخبة من شعب واعٍ مستريح في معيشته يملك كامل إرادته.
المبدأ الثالث: أن يكون هناك فرق واضح بين المال الخاص والعام، ومصلحة النظام هي مصلحة الوطن، فلا فارق بينهما، ولا أن يحل الولاء للنظام بحساباته الذاتية محل الولاء للوطن.

إقرأ أيضاً: نظريات برنارد لويس التفتيتية وجدت في “الربيع العربي” حقولها الخصبة (مقابلة شاملة)

المبدأ الرابع: ليس هناك حاكم دكتاتوري ذو كاريزما أو حاكم صالح، وإنما هناك حاكم يأتمر بأمر الدستور والقانون ووصل إلى منصبه بانتخابات حرة على أساس المنافسات الحرة بين البرامج، وليس بين الأشخاص، فقد عانت الأمة من عبادة الأشخاص مهما كان بريق شعاراتهم وحتى قدراتهم ما داموا يحكمون بفصيلهم ووفق رؤاهم ويحرمون الدولة من كفاءات وقدرات أبنائها.
المبدأ الخامس: إن العروبة ثقافة والإسلام جماع الشرائع، فلا طائفية ولا عنصرية مع السماح للمختلف بالازدهار ما دام ضمن الحديقة الوطنية.

إن كل هذه المبادئ كفيلة بإحياء الأمة ودخولها إلى مرحلة الأزدهار، علماً بأن من مصلحة الأمة أن تتوحد سياسات وحداتها على أهداف مشتركة فتحافظ على وحداتها وتسمح بازدهار القُطرية فيها ما دامت حدائق في حديقة عربية كبيرة.

فالأمة العربية الواحدة لا تذيب الكيانات القومية الأخرى وتهيمن عليها أو سحقها بإسم الأمة، فقد كانت الأمة الإسلامية مزدهرة بمبادئ الإسلام ولنا في رسول الله قدوة حسنة عندما أقام أول دولة في التاريخ في المدينة المنورة. وكلما كان الحاكم مروعاُ، كلما كان مستقلاً عن الخارج ومتفانياً في الداخل، ومتفانياً في خدمة الوطن، وهذا يرفع من شأن نظامه، فالنظام يدير الوطن بالأصول ولا يملك هذا الوطن ولا يستبعد أبناءه ومعيار سلامة النظام، هو مدى إخلاصه وتفانيه ونجاحه في إدارة الوطن وموارده. لا نريد أن نفصل في الواقع الأليم وتجربة الفكر القومي وعثراته القاتلة.

مصدر الصورة: العربي الجديد.

د. عبدالله الأشعل

سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق وأستاذ محاضر في القانون الدولي – مصر


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •