د. عبدالله الأشعل*
ولد النبي موسى في مصر لإحدى سيدات بني إسرائيل الذين جلبهم النبي يوسف(ع)، وقد قص القرآن قصتهم وكيف أن المصريين اضطهدوهم وأساءوا معاملتهم. ومن الواضح أن مشاعر العداء كانت متبادلة بين المصريين وبني إسرائيل، وصوَّر القرآن الكريم هذه الحقيقة عندما استجاب موسى دون تردد لنصرة رجل من شيعته على عدوه قبل أن يدرك في اليوم التالي أن الرجل من شيعته أراد أن يورطه في مزاعم العدوان عليه بعد أن قتل موسي المصري.
والفتن في قضية موسى ناجمة عن تفرد بعثته عن بقية الرسل والأنبياء، فقد بعث الأنبياء والرسل إلى أقوامهم ومن بينهم فكان موسى يجمع بين أنه من بني إسرائيل وأنه مصري. وكان يرى من القصر عبادة المصريين للفرعون كما يشهد تعسف الأخير وآله مع بنب إسرائيل فيما قصه القرآن من ابتلاءات، فكانت رسالة موسى إلى فرعون لكي يرسل معه بني إسرائيل للخروج من مصر بعد أن يتحدى ألوهيته، مصدر شرعيته السياسية، إذ لم تكن رسالته تحسين معاملة الفرعون لبني إسرائيل.
الفتنة الأولى، هي أن موسى تربى في قصر الفرعون بسبب آسيا، إمرأة الفرعون التي حثته على عدم قتل الوليد عسى أن يكون قرة عين لهما وعسي أن ينفعهما أو يتخذاه ولداً. تربى فرعون في بيئة متربصة حيث لم ينسَ قصة العراف، كما كان موسى يدرك أن وجوده في القصر ترتيب إلهي له ما بعده “فلما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلماً وكذلك نجزى المحسنين”.
الفتنة الثانية، هي قتل المصري في أول احتكاك بين المشاعر السلبية البشرية لموسى نصرة لأحد بني جلدته، فكان التكليف الإلهي ترحيله بني إسرائيل بعد أن استحال دمجهم عبر القرون. ويرتبط بهذه الفتنة خروج موسى وهربه من مصر خوفاً من العقاب.
الفتنة الثالثة، هي بعثته إلى فرعون، حيث تربى فى مصر وقتل مصرياً من رعيته، وكانت تلك محنة كبرى لأن مهمة موسى كانت مواجهة ألوهية فرعون، التي هي أساس شرعية حكمه إذ لم يكن هناك فاصل بين الألوهية والحكم فالحاكم مطاع لأنه إله والطعن في ألوهيته يبطل شرعيته التي تستند إلى الألوهية. ومن خلال ضرب ألوهية الفرعون، تتحقق المهمة الثانية وهي تخليص بني إسرائيل والخروج بهم انقاذاً لهم من بطش الحاكم. ونظراً لهذه الملابسات وتعقد المهمة كانت الفتنة الرابعة.
الفتنة الرابعة، هي طلب موسى من ربه أن يعينه بمرافق بمرتبة نبي، وهو أخوه هارون “أشدد به أزري وأشركه فى أمري”. فلم يرد له ذكر حين مواجهة موسى لفرعون، أو يوم الزينة، والراجح أن هارون كان بجوار أخيه ثم ظهر مرة وحيدة حين ترك موسى بني إسرائيل في عهدته وذهب إلى ربه ليتلقى الألواح وعاد فوجدهم وقد أغواهم السامري. ولقد أوضح هارون لأخيه أنه لما كان دوره يقتصر على المساعدة، فقد أخبره بأنه لم يشأ أن يتدخل حين إرتد البعض حتى لا يتهم بأنه أحدث الشقاق في بني إسرائيل، وهي فتنة أخرى لموسى وهارون.
الفتنة الخامسة، هي أن موسى من بني إسرائيل وبُعث لقومه، لكنه بعث للمصريين بصفته مصرياً بالميلاد واللغة والثقافة وذلك من خلال هدم شرعية الألوهية عند فرعون. فرسالة موسى التي افتتح بها عصر الرسالات والرسل بعد عصور الأنبياء، لم توجه إلى المصريين مباشرة بل كان المصريون موضوع الرهان بين موسى وفرعون من خلال موقعة السحر في يوم الزينة.
الفتنة السادسة، هي أن فرعون استكبر على موسى ودعوته لأربعة أسباب؛ السبب الأول، أنه رباه صغيراً ورفعه إلى مصاف الطبقة الحاكمة. السبب الثاني، أن موسى يطيح بشرعية فرعون الدينية وهي مصدر شرعيته السياسية وهيمنته على مصر والمصريين في وقت ساق فرعون ثلاثة أسس لشرعيته الدينية والسياسية وهي: هل لكم من إله غيري، لا أريكم إلا ما أرى وأنا أدلكم على طريق الرشاد، وأنه له ملك مصر وتجري الأنهار من تحته وهي من خصائص الآلهة، وأنه يدافع عن طريقتهم المثلى فى الحياة. والسبب الثالث هو أن فرعون إستكثر على نفسه أن يخرج من بني إسرائيل الذين عبدوا فرعون من يهديه إلى الحق. والمحقق أن الله قد برأ موسى وهارون من عبادة فرعون كسائر المصريين لأنه ادخرهما لرسالة قاسية وهي أقسى الرسالات والبعثات بين سائر الرسل والأنبياء خاصة وأن الله يعلم حيث يضع رسالته. بالنسبة لموسى بالذات، طمأن الله أمه في المحنة وذلك في موطن الفزع “أوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفتي عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين”، ثم من عليه “ولقد صنعتك على عيني” وأجاب سؤله بالإستعانة بأخيه. السبب الرابع والأخير، أن فرعون كبر عليه أن يظهر بمظهر الكاذب أمام المصريين، فحرصهم على موسى الذي اتهمه بأنه يريد أن يخرجهم من أرضهم وعن طريقتهم المثلى في الحياة، لكن الشعب المصري صدق فرعون وانحاز له وانبهر بأكاذيبه واستخفافه بهم “فإستخف قومه فأطعوه انهم كانوا قوما فاسقين”.
الفتنة السابعة، هي علم موسى اليقيني بأن الأمم السابقة التي كذبت أنبياءها عاقبهم الله بمحوهم بطرق مختلفة، كالريح الصرصر وبالصاخة وبالطوفان، ولكن الله أهلك المصريين بظلم الفرعون وتجبره وهي صورة من صور إبادة الله للشعب المنكرة للدعوة. وقد ميز القرآن الكريم بين مصر نفسها وبين المصريين، فقد حفظ مصر وامتدحها، ولكنه أنكر على المصريين تمسكهم بالضلال ورفض رسالة موسى. ويبدو أن تلك لعنة المصريين التاريخية، وبركة الله في أرضها.
الفتنة الثامنة، هي هل بني إسرائيل شعب الله المختار؟ نعم، نص القرآن بأن الله اختار بني إسرائيل لا لتميزهم وإنما لإختبار إيمانهم بأول رسالة مكتوبة، ولكنهم فشلوا في حملها فكفروا وأمهلوا وخفف الله عنهم، لكنهم كانوا قوماً بوراً. ثم أنهم لفجورهم قتلوا أنبياءهم، كما أنهم لم تكفهم رسالة موسى ومن بعده، داود وسليمان، فأرسل الله لهم عيسى(ع) مصدقاً لما نزل مع موسى من التوراة، ومؤكداً بالإنجيل ما جاء فيها، فهم الشعب الوحيد الذي أثبت نكوصاً عن حمل الرسالة، فزوروا التوراة والإنجيل وافتروا على الله الكذب فيما فصل القرآن الكريم قصتهم. أما قول موسى لقومه حين تمردوا على المن والسلوى وطلبوا الأدنى وهو البصل والثوم، فقد دلهم موسى على أن خير مصر يشمل كل هذه الزروع مما يعني أن هذه النباتات لم تكن قد عرفتها فلسطين. وقول يوسف لأهله “إدخلوا مصر إن شاء الله آمنين” يدل على أن أمان مصر كان مضرب الآمثال وكانت حضنا لكل من قصدها حتى الغزاة. ووصف مصر بالأمان وبخيرها في الزروع، لا يمكن تفسيره على أن الله جعل لبني إسرائيل نصيباً في مصر، كما يقول بعض السفهاء. الثابت أن بني إسرائيل اعتنفوا اليهودية لكنهم اضطهدوا عيسى حتى ظن أنهم استعدوا عليه الرومان فقتلوه، لكن القرآن أكد أنهم خيل لهم فقط “وما قتلوه يقيناً ولكن خيل لهم”. ثم تفرق اليهود فى بقاع الأرض وقطعناهم طرائق لدداً، كما أنه ليس من الثابت أن يهود المشروع الصهيوني هم بنو إسرائيل.
أخيراً، حتى لو صح أنهم بنو إسرائيل، فإن استعادتهم فلسطين وقد مكنوا فيها بضع سنين تخول للعرب المسلمين أن يعودوا إلى الأندلس التى مكثوا فيها ثمانية قرون.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: مونتي كارلو – الحرة.
موضوع ذا صلة: أسطورة الدولة اليهودية الخالصة