إبراهيم شير*

استغلال معاناة الشعوب حجرٌ أساس في تاريخ الدولة العثمانية وجيشها، في الماضي، والتركية، في العصر الحديث. لن أتحدث هنا عن الفرقة الإنكشارية في الجيش العثماني، والتي كانت تتكون من الأطفال سواء المخطوفين من الدول الأخرى أو الأيتام، بل سوف أتحدث عن فترة ما بعد العام 1826، أي في السنة التي أنهت فيه الدولة العثمانية الإنكشارية وأوجدت جيشها الحديث على يد السلطان محمود الثاني. بعد هذا التاريخ، كانت أبرز المعارك التي خاضها العثمانيون تتمثل في وضع جنودهم في الصفوف الأولى، هم أبناء الدول العربية لأنهم كانوا دون حقوق في هذه الدولة، بينما قادتهم كانوا من الأتراك.

لقد كانت حرب القرم، منذ العام 1853 وإلى العام 1856، فاتحة الحروب التي يجند فيها العرب ليكونوا تحت الراية العثمانية في ظل جيشها الجديد، وفيها راح الآلاف منهم قتلى على يد عساكر الإمبراطورية الروسية، إذ كانوا يجندون في الجيش غصباً عنهم مع إصدار الفتاوى الدينية بضرورة القتال في الجيش العثماني، ومن لا يقاتل فهو “مرتد كافر خارج عن الدين”.

“السفربرلك” هي خير مثال على هذه المعاناة التي عاشها العرب في ظل الدول العثمانية، فقد خاضوا حروباً لا ناقة لهم فيها ولا جمل، والضحايا منهم كانوا بمئات الآلاف. فمنذ العام 1914 وحتى العام 1918، أي خلال الحرب العالمية الأولى، كان أي شاب عربي عمره ما بين الـ 18 والـ 45 يسحب إلى الجندية غصباً عنه، ليلقى حتفه في بلاد لم يكن يسمع عنها من قبل. أهل بغداد أسموا هذه الحرب بأيام “الضيم والهلاك”، لأن آلافاً من العراقيين والسوريين تم نقلهم إلى “جبهة القفقاس”، أي القوقاز، ولم يعد منهم سوى عدد قليل يعدون على أصابع اليد الواحدة، فـ 80% من الذاهبين لقوا حتفهم جوعاً وبرداً حيث قاتلوا في مناطق جبلية قاسية بين آسيا وأوروبا.

حملة ترعة السويس الأولى كانت ضمن السفربرلك أيضاً، إذ حشدت الدولة العثمانية آلافاً من العرب للذهاب إلى مصر ومحاربة الجيش البريطاني، في العام 1915. وهناك، تُرك العرب ليكونوا لقمة سائغة للدبابات البريطانية وصيداً جيداً لطائراته. وبعد فشل العثمانيين في السيطرة على القناة، تم إرسال الجنود العرب إلى القتال على الجبهة الأوروبية، وما هي إلا أشهر قليلة حتى لقي معظمهم حتفه، فلا يوجد عائلة سورية أو عراقية أو مصرية أو أردنية أو لبنانية أو فلسطينية إلا ولديها أحد من أجدادها كان ضحية لتلك الحروب التي خاضها العثمانيون بجنودنا.

بعد اندلاع ما يسمى بـ “الربيع العربي”، خرج “النفس العثماني” في الدولة التركية الحالية مجدداً، وأرادت أن تحيي تراث الماضي بكل تفاصيله وأولها استغلال معاناة الغير من أجل جعلهم مرتزقة. الإيغور أو التركستان، كما تريد أنقرة تسميتهم، هم من أوائل جنود الإنكشارية الجديدة، فقد كانوا وقوداً رخيص الثمن لدى أنقرة وفعالين آخرين أيضاً، حيث استغلت ظروفهم المعيشية الصعبة وفكرهم الديني، الذي يميل لها، وغزتهم بالأفكار المتطرفة حتى تقطع عليهم أي خط عودة إلى وطنهم الأصلي الصين. وبعد كل هذا أرسلتهم إلى سوريا ليقتلوا الشعب السوري ويحتلوا أرضه، بحيث باتت هناك مدن وقرى في ريف إدلب للإيغور بعدما تم طرد سكانها الأصليين منها.

ومع اشتداد الحرب في سوريا، وجدت تركيا جنوداً آخرين من الممكن أن يكونوا جيدين في “الإنكشارية الجديدة” ألا وهم السوريون أنفسهم لأن من يعيش على أرضها منهم أو في المناطق التي لها نفوذ فيها، ينظرون للرئيس التركي، رجب طيب اردوغان، على أنه “سلطان العصر” و”الحاكم بأمر الله” لذلك هم يطيعونه.

بعض جماعات “المعارضة السورية” المنشقة عن تركيا اتخذت من ألمانيا مقراً لها، وفضحت أنقرة التي عقدت عدة صفقات مع السعودية لإرسال بعض السوريين للقتال على حدود اليمن، بحسب تلك الجماعات.

تركيا استخدمت السوريين كجنود صف ثاني أو ثالث في جيشها ووضعتهم في مواجهة إخوانهم الكرد خلال اجتياحها للشمال السوري قبل أشهر واحتلالها له، والأمر عينه خلال احتلالها لمنطقة عفرين قبل نحو عام، والآن ترسل السوريين للقتال إلى جانب رئيس حكومة الوفاق الليبية، فائز السراج، في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وبمقابل بخس جداً.

حرب السفربرلك لم تنتهِ بعد، ولا نزال نعيش تخبطاتها واختلاجاتها حتى الآن. ومن أرسل أجدادنا للموت قبل مئة عام، يرسل اليوم إخوتنا في الوطن للموت أيضاً دفاعاً عن مصالحه. رحم الله قائل المثل الشعبي “عدو جدك ما رح يودك”.

*كاتب وإعلامي سوري.

مصدر الصور: البوابة – مونتي كارلو.

موضوع ذو صلة: تركيا من “الأتاتوركية” إلى “الأردوغانية”