لن ينغمس العالم في حرب باردة ثانية بين الولايات المتحدة والصين، وبدلاً من ذلك، فإن المنافسة متعددة الأوجه التي يشارك فيها الاتحاد الأوروبي وتركيا والهند وروسيا واليابان وأستراليا والبرازيل ودول أخرى آخذة في الازدياد، وانتهجت الحرب بالوكالة بدل استخدام الجيوش والتكاليف، رغم أنه كان من المفروض أن يتناقص احتمال نشوب صراع مباشر بين القوى العظمى في هذا العصر متعدد الأقطاب، لكن فيما يبدو أن هناك مخاطر أخرى لصراعات هذه القوى.
تحول ظهور عالم متعدد الأقطاب من نبوءة عصرية إلى حقيقة فعلية، لقد وصلت التعددية القطبية، وستحدد الديناميكيات السياسية الدولية لجيل كامل، حيث لن يُترك أي ركن من أركان العالم خارج مرحلة الانتقال إلى التعددية القطبية، ومع ذلك، هناك ما يسمى بالمناطق الوسيطة على الخط الفاصل بين القوى العظمى الصاعدة والضعيفة، وهناك ستكون العواقب ملموسة للغاية.
لقد كانت العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى حقبة ديناميكية وخطيرة بنفس القدر، حيث تميزت بالتكامل الاقتصادي المتزايد باستمرار، حتى مع اندلاع النزاعات السياسية والعسكرية الإقليمية في مناطق حول العالم (الحرب الروسية اليابانية هي صراع بين قوتين على شبه الجزيرة الكورية وشمال الصين مثال ساطع على مثل هذا الصراع).
ونادراً ما تكون العلاقات في العصور متعددة الأقطاب صفرية لأنها تعكس أنظمة معقدة، على عكس الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، عندما تصارعت قوتان من أجل الهيمنة على العالم، فإن البيئة متعددة الأقطاب تخلق شبكة من العلاقات المتغيرة باستمرار، البراغماتية والفوائد قصيرة الأجل تصبح أولوية، لكن من الواضح أن البلدان في بيئة متعددة الأقطاب لديها أهداف إستراتيجية طويلة المدى، ولكن هذا يعني أنه على الرغم من وجود المزيد من “العمليات”، إلا أن نطاق وتأثير النزاعات أصبح محدوداً.
حيث أنه غالباً ما تؤدي البيئة متعددة الأقطاب إلى صراعات كارثية، كما حدث أثناء الحرب العالمية الأولى، تتكشف هذه المعارك المنهجية عندما يعتقد كيان واحد في النظام العالمي أن لديه القوة اللازمة للانتقال إلى المستوى التالي وإبراز القوة خارج نطاق نفوذه.
على سبيل المثال، العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، من الصعب العثور على دولتين تبدو أكثر عرضة للصراع من الإمبراطورية البريطانية والرايخ الثاني الموحد حديثاً، ومع ذلك، على الرغم من التوترات المتزايدة والعداء بين الدولتين الأوروبيتين الكبيرتين، استمر التكامل الاقتصادي والتجارة بينهما في النمو، حيث تضاعف الحجم الإجمالي للتجارة البريطانية الألمانية بين عامي 1904 و1912، وكان مستوى التكامل الاقتصادي والازدهار عظيماً لدرجة أن العديد من المحللين في ذلك الوقت اعتبروا الصراع مستحيلاً.
كما أنه ليس من قبيل المصادفة أن كلاً من حقبة تعدد الأقطاب في أواخر القرن التاسع عشر والفترة الحالية كانتا فترات من الثورات الصناعية، والتحول نحو الكهرباء، ونتيجة لهذا التحول، أصبحت الهيدروكربونات شريان الحياة للاقتصاد الحديث (والجيوش الحديثة)، وكذلك المصدر الرئيسي للصراع في الحروب التي تلت ذلك، على سبيل المثال، دخلت اليابان الحرب العالمية الثانية جزئياً لأن الولايات المتحدة فرضت حظراً نفطياً على طوكيو في الأول من أغسطس عام 1941.
اليوم، يقف العالم على حافة الثورة الصناعية الرابعة – الانتقال من الاقتصاد الرقمي إلى الاقتصاد الذكي، ينعكس هذا في الخلاف بين الولايات المتحدة والصين حول تقنية 5G، وستغطي بشكل متزايد قطاعات أخرى مثل المنصات الفضائية والذكاء الاصطناعي وفئة جديدة من المعادن والمواد الخام ذات الأهمية الاستراتيجية، حيث لا يمكن لأي دولة أن تتمتع بالاكتفاء الذاتي عندما يتعلق الأمر بالموارد اللازمة لتطوير فوائد الاقتصاد، على سبيل المثال، يتم استخراج معظم الكوبالت في العالم في جمهورية الكونغو الديمقراطية، ومن تشيلي وبيرو تمثلان ما يقرب من 40 في المائة من إنتاج النحاس في العالم؛ أما أستراليا هي المنتج المهيمن لليثيوم في العالم، فضلاً عن جنوب إفريقيا التي هي المنتج المهيمن للبلاتين في العالم، ومن المفارقات أن الولايات المتحدة وروسيا إلى جانب السعودية وإيران ينتجان معظم النفط والغاز.
بعبارة أخرى، على الرغم من الصراع العالمي على السلطة والنفوذ والموارد الاستراتيجية، لا يزال اللاعبون الأكثر أهمية يعتمدون على بعضهم البعض، وهناك فرق رئيسي آخر بين البيئة متعددة الأقطاب في أواخر القرن التاسع عشر والبيئة متعددة الأقطاب التي ظهرت اليوم، والتي منها وأخطرها، وجود الأسلحة النووية، فقد كان صراع مثل الحرب الروسية اليابانية 1904-1905 أقل احتمالاً في البيئة الحالية لأن الأسلحة النووية قد غيرت نسبة التكلفة إلى الفائدة لبدء الحرب، حيث لا يكفي أن تكون قادراً على هزيمة عدو بالأسلحة التقليدية، فالقوى العظمى، عندما تُحاصر، يكون لديها معادل جيوسياسي لاستخدامه في حالة الهزيمة، مما يقلل من احتمالية نشوب صراع مباشر بين القوى العظمى في هذا العصر متعدد الأقطاب.
لقد احتفظ التاريخ بالعديد من أسماء الصراعات بالوكالة التي نشأت في القرن التاسع عشر عن طريق المنافسة الجيوسياسية متعددة الأقطاب – “اللعبة الكبرى” و”السباق من أجل إفريقيا” وما إلى ذلك، يكفي التذكير بالأحداث التي وقعت منذ اندلاع الوباء في آذار/ مارس 2020، حرب ناغورنو كاراباخ عام 2020، وصعود التمرد الإسلامي في شمال موزمبيق، واستمرار تدهور الوضع في منطقة الساحل شمال موزمبيق، أفريقيا، والصراع الحدودي الأخير بين قيرغيزستان وطاجيكستان وانتشار حركات الاحتجاج المناهضة للحكومة في أمريكا اللاتينية، وخاصة في بيرو وتشيلي وبوليفيا وربما الآن كولومبيا، وأخيراً أوكرانيا، فضلاً عن نزاعات الشرق الأوسط.
ومن المفارقات أن الولايات المتحدة وروسيا لديهما شيء مشترك في هذا العالم الجديد، يجب أن يعتاد كلا البلدين على كونهما أقل قوة، أي أقل قدرة على فرض إرادتهما على البلدان الأخرى، لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تكون موجودة في كل مكان وأن تكون كل شيء للجميع في نفس الوقت، كما يجب أن تتعلم واشنطن ترتيب أولويات كيفية ومكان توجيه مواردها، وكما تظهر الأحداث الأخيرة، الولايات المتحدة بطيئة التعلم، وفي المستقبل المنظور، ستركز الولايات المتحدة بشكل أساسي على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وليس على أطراف أوروبا الشرقية، كما لم تعد روسيا “إمبراطورية ذات مهمة تاريخية عالمية”، لقد أصبحت قوة إقليمية، تقاتل بكل قوتها من أجل مكانتها في العالم وحماية أمنها القومي، حيث روسيا ببطء، لكن الحقيقة المؤكدة، تظل الولايات المتحدة وروسيا قوى عسكرية هائلة.
بالتالي، ولسوء الحظ، لا يزال مزيج الحنين إلى الماضي والشك والاتهام يحدد العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة، ولا يوجد فهم واضح بين الطرفين لمدى تغير العالم ومدى استفادته من عدم وجود الذات- الولايات المتحدة واثقة من روسيا أقل منها، ربما كان من المقرر أن تتنافس الولايات المتحدة وروسيا مع بعضهما البعض في المناطق الوسيطة من العالم لسنوات عديدة قادمة، في الوقت نفسه، قد تتفاجأ واشنطن وموسكو بوجود قوى لا تقل روعة وطموحاً ومرونة – قوى مهتمة ليس بالعودة إلى الصراع أحادي القطب أو ثنائي القطب، بل بضمان أمنها وازدهارها المتزايد في عالم جديد متعدد الأقطاب.
في نهاية المطاف، فإن الدافع الرئيسي للاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة هو منع ظهور هيمنة أورو – آسيوية حقيقية، ونتيجة لذلك، فإن مستقبل أوكرانيا سوف تحدده العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وروسيا أكثر من الدراما السياسية الميلودرامية والمسرحية التي تجري حالياً بين روسيا والولايات المتحدة.
مصدر الصورة: مركز الفرات للدراسات.
اقرأ أيضاً: النظام الدولي الحالي: من العولمة إلى التعددية*
كاتب وإعلامي – الكويت