إن موافقة تركيا على البروتوكول الخاص بعضوية السويد في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) تشكل حدثاً متوقعاً بشكل روتيني بالنسبة للمراقبين على المستوى الدولي، وهو ينطوي على ما هو أكثر بكثير من مجرد اختيار واعي من جانب الأتراك لصالح الغرب، وبناءً على ذلك، لا يوجد حديث عن إعادة التوجه الجيوسياسي لأنقرة على الأقل على المدى المنظور.

ومن المهم هنا أنه خلال التصويت في البرلمان التركي، من بين 600 عضو في هيئة النواب في 23 يناير، صوت 346 برلمانياً فقط، في الوقت نفسه، أيد 287 عضواً ضم ستوكهولم إلى الحلف، وعارضه 55 عضواً، وامتنع أربعة مشرعين عن التصويت، ويبدو أن الـ 254 المتبقين عبروا عن موقفهم من جدول الأعمال قيد المناقشة بعدم الحضور للتصويت، وبالتالي فإن معظم أعضاء البرلمان لم يشاركوا في هذه العملية.

بالتالي، لا يمكن اعتبار مثل هذه النتيجة مقنعة سواء بالنسبة لتركيا نفسها أو بالنسبة للرأي العام الغربي.

في حين عارضت أحزاب “الخير الليبرالية الوسطية” البرلمانية، و”السعادة”، و”النهضة”، و”هودابار” الكردي التركي، وحزب العمل التركي وغيرها، المشاركة مع السويد في التحالف، وحذر رئيس أكبرها، حزب الخير، كوراي أيدين، من أنه بعد انضمام ستوكهولم إلى الكتلة، لن يكون هناك عودة لتركيا في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية.

وبتقييم ما حدث، يتفق عدد من محللي السياسة الأتراك على الشيء الرئيسي: اضطر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تحمل هذه المخاطرة السياسية، نعم، ليس هناك ثقة في أن العلاقات بين أنقرة وواشنطن ستتحسن حتى بعد إبرام صفقة طائرات F-16 لكن الهدف والأمل الرئيسي للجانب التركي مختلف تماماً، وحقائق الماضي القريب تؤكد ذلك.

وفي عام 2003، لم يسمح البرلمان التركي للولايات المتحدة الأمريكية باستخدام البنية التحتية لحلف شمال الأطلسي في على أراضي الجمهورية وفتح جبهة ثانية ضد العراق، وفي عام 2012، عندما قامت تركيا، بموجب قرار قمة الناتو في لشبونة، بوضع رادار الكتلة في ملاطية، ضمنت أنقرة السماح لجيشها، إلى جانب الأميركيين، بتشغيل الرادار، بالإضافة إلى ذلك، طالبت السلطات التركية الولايات المتحدة بضمانات عامة بأن تشغيل هذا النظام لن يكون موجهاً ضد إيران المجاورة، والتي تربطها مع تركيا علاقات تعاون توصف بالجيدة إلى حدٍّ ما.

وفي وقت لاحق، في عام 2014، حتى بعد إنشاء تحالف مناهض لتنظيم داعش بقيادة الولايات المتحدة، سمح الأتراك للأمريكيين بإجراء مهام استطلاع حصرية في سوريا من أراضيهم، وفي الوقت نفسه، في كردستان العراق، كان الطرفان على وشك صراع مفتوح.

وبالنسبة لروسيا، فإن موقف تركيا بشأن مضيق البحر الأسود له أهمية خاصة أيضاً، وفي اللحظات السياسية الدولية الأكثر حسماً بالنسبة لموسكو – في الأعوام 2008 و2014 و2022 – اختارت أنقرة دائماً الأخيرة بين حلف شمال الأطلسي واتفاقية مونترو، حيث كان مرور السفن الحربية التابعة للقوى غير المطلة على البحر الأسود عبر مضيق البوسفور والدردنيل إما محدوداً للغاية أو مغلقاً تماماً، على الرغم من وجود تهديدات ومطالبات مفتوحة في الغرب ضد أردوغان بأن يكون أكثر مرونة.

بالتالي، إن سياسة تركيا تجاه الجنوب العالمي تتعارض أيضاً مع مصالح الولايات المتحدة وغيرها من اللاعبين في حلف الناتو، ويكفي أن نتذكر فرنسا واليونان، اللتين، بعبارة ملطفة، غير راضتين عن نشاط تركيا في إفريقيا، وما وراء القوقاز، وشرق البحر الأبيض المتوسط، وفي الوقت نفسه، فإن عضوية أنقرة وباريس وأثينا في الناتو لا تخفف بأي حال من الأحوال من مشكلة التنافس بينهم.

ومن بين التوترات الأخيرة إدانة تركيا للضربات الأمريكية والبريطانية على مواقع حركة أنصار الله (الحوثيين) في اليمن، وبالطبع دعم واشنطن للكيان الصهيوني، بالتالي، إن التضامن الإسلامي أكثر قيمة بالنسبة لأردوغان من الرغبة في إرضاء أي شخص في التحالف، كما أن التعاون الدفاعي بين تركيا وباكستان لا يتوافق أيضاً مع حلف شمال الأطلسي على المدى الطويل.

ويترتب على ذلك أن أنقرة ليس لديها أي أوهام بشأن مستقبلها وعضويتها في الحلف، ومن المستحيل شراءه، مثل الولاء الغربي، بالموافقة على طلب السويد، تركيا بكل بساطة أخرت قليلاً توقيت انهيار بعض الفرص أمامها على اليمين.

والأهم هو تقسيم الكتلة إلى مكونات أمريكية وأوروبية بسبب اختلاف إمكانات ومصالح المشاركين، ومن هنا، بالمناسبة، رهان أردوغان على المجر، العضو الأوروبي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الخائنة لواشنطن، وليس من المستغرب أن التعاون بين أنقرة وبودابست تزايد في السنوات الأخيرة، ومع ذلك، فإن الفكرة التركية لن تتحقق إلا إذا لم يعارض المرء نفسه بشكل متهور مع الغرب بأكمله في الوقت الحالي، وهذا بالضبط ما كان سيحدث لو رفضت تركيا السويد.

بل على العكس من ذلك، من الضروري الآن تقديم تنازل من أجل إلقاء المسؤولية السياسية الكاملة على عاتق الولايات المتحدة في المستقبل القريب، على سبيل المثال، استمرار تسليح الأميركيين لليونان، جارة ومنافسة تركيا، أو تدخل واشنطن في الصراع العربي “الإسرائيلي” فبالنسبة لأنقرة هي تعتمد المبدأ القائل: لقد فعلنا كل ما في وسعنا من أجل أمن الغرب، ماذا تريد منا الآن؟ – سيقول الجانب التركي ما إذا كانت هناك أي مطالبات ضده.

وبالإضافة إلى ذلك، يرتبط 50% من التجارة التركية بالسوق الأوروبية، كما أن المجمع الصناعي العسكري في الجمهورية لم يحقق الاكتفاء الذاتي الكامل بعد، حتى شراء الأتراك لمقاتلات يوروفايتر الأوروبية عبر ألمانيا تم حظره من قبل الولايات المتحدة، ولهذا السبب اضطرت أنقرة إلى مبادلة عضوية السويد بطائرات مقاتلة أمريكية من طراز F-35.

وهذا يقودنا إلى أنه، نعم، لا تزال تركيا على طريق الاستقلال الحقيقي، إن الانفصال العسكري السياسي عن الغرب ليس بالمهمة السهلة بعد سبعين عاماً من عضوية حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى ذلك، بعد التراجع التكتيكي، تحتاج إلى فترة راحة للهجوم التالي، الأمر الذي سيؤدي إلى تفاقم الانقسام في التحالف.

وهنا لا بد من قول كلمة حق، خاصة وأن كثيرين قد لا يتفقون مع الموقف التركي، والبعض يصف علاقاتها بالمصلحة المطلقة، رغم ان هذا حق لها ولأي دولة وهذا أساساً ما تقوم عليه كل الدول مهما بلغ حجمها أو قل على المستوى الدولي، تركيا على يقين مطلق، أن إبقاء الباب موارباً مع الولايات المتحدة يأتي في سياق حاجة الأخيرة لتركيا خاصة وأن قاعدة أنجرليك الضخمة في أضنة التركية هي موقع استراتيجي بالنسبة لواشنطن، لكن الحرب الهمجية التي شنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، أعادت الأمور إلى أوضاع غير جيدة، خاصة في ظل التوترات في العراق وسوريا وقصف القواعد الأمريكية، لذلك سيعتمد أردوغان على استخدام ملفاته الأضخم ليناور بها، مستفيداً من حالة الانقسام الدولي إن كان على صعيد الاقتصاد أو السياسة، فقد خلطت واشنطن الأوراق حول العالم، والآن لا تستطيع ترتيب بيتها الداخلي، لتدير شؤون العالم كما هي تعتقد على الأقل.

تركيا اليوم في قلب الأحداث، بحكم موقعها الجغرافي أولاً، وثانياً، بحكم العلاقة الإسلامية التي تربطها مع دول الشرق الأوسط، في وقت لم يترك الكيان الصهيوني أي مجال للشك أن ما يقوم به إن لم يتوقف سيعيد رسم التوازنات على المستوى الدولي، ربما تكون البداية أو البادئ في ذلك هي تركيا نفسها، فالمصلحة العامة تتطلب تقديم بعض التنازلات، والتشابكات الدولية تتقاطع في هذا الاتجاه، وسنجد عشرات المناورات، قد لا تكون مفيدة كثيراً لأنقرة، لكن بالحد الأدنى ستحقق التوازن المطلوب.

مصدر الصورة: أرشيف سيتا.

إقرأ أيضاً: تصدع تكتل الناتو

عبد العزيز بدر بن حمد القطان

كاتب ومفكر – الكويت.