إعداد: يارا انبيعة
خطوات وتحركات تشهدها الدبلوماسية الأمريكية، خلال العامين الماضيين، تثير الجدل على الساحة العالمية، بحيث لا يمكن فصلها عن التغيير الذي شهدته في مستوى رأس الحكم بإنتخاب رجل الأعمال الأمريكي، دونالد ترامب، ليكون رئيساً للبلاد. فمصطلح “إنسحاب” بات الأكثر ارتباطاً بالدبلوماسية الأمريكية مع بدء ولاية الرئيس الجديد سواء من المعاهدات او الإتفاقات الدولية، او حتى بعض المنظمات الدولية.
لم يكن الإعلان عن نية انسحاب الرئيس ترامب من معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا بسابقة، فهي “عادة” درج على ممارستها منذ توليه منصبه، حيث انسحب من اتفاقية “باريس” للمناخ، واتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، واتفاقية الملف النووي الإيراني، ليأتي دور الإنسحاب من معاهدة الحد من الصواريخ النووية المتوسطة والقصيرة المدى. غير ان حساسية هذه المعاهدة تفرض بالضرورة سؤالاً مهماً: وماذا بعد؟
إتفاقيات وتعهدات
في ثمانينيات القرن الماضي، ابرم “الصفقة” كل من الرئيس الأميركي السابق، رونالد ريغان، والزعيم السوفياتي الراحل، ميخائيل غورباتشوف في ديسمبر/كانون الأول 1987، لتكون المعاهدة الأولى والوحيدة من نوعها بين القطبين. فلقد اوجبت بنود المعاهدة الطرفين على سحب اكثر من 2600 رأس نووي تقليدي.
اضافة الى ذلك، “تعهد” الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب، لغورباتشوف بأن حلف “الناتو” لن يتمدد في شرق اوروبا من خلال ضم الدول التي كان يتكون منها الإتحاد السوفياتي السابق، مثل اوكرانيا ودول البلطيق. لكن ذلك لم يحدث اذ ان هناك الكثير من تلك الدول يريد الحلف ضمها اليه، من اجل ان تكون “رأس حربة” في أي مواجهة مقبلة مع موسكو، بحجة “وقف التمدد الروسي الى القارة الأوروبية”.
وبالمقارنة ما بين خطورة القواعد العسكرية وانسحاب واشنطن من المعاهدة، يمكن القول ان الثانية اخطر بكثير من الأولى خصوصاً وان بنود الإتفاقية تنص على منع صنع او تجريب او نشر اي صواريخ باليستية او مجنحة او متوسطة، وتدمير كافة منظومات الصواريخ التي يتراوح مداها المتوسط ما بين 1000 – 5500 كلم ومداها القصير ما بين 500 – 1000 كلم.
من هنا، يبدو ان تصاعد اللهجة العدائية بين البلدين قد يؤثر، بصورة ام بأخرى، على دول اوروبا الشرقية المحيطة بروسيا، حيث هدد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بإستهدافها في حال تم نشر الصواريخ متوسطة المدى فيها لا سيما الدول التي يتركز الوجود العسكري الأمريكي، كبولندا ولاتيفيا واستونيا وليتوانيا، وهو ما قد يضع واشنطن امام خيارين احلاهما مر؛ الأول، التراجع عن فكرة الإنسحاب من المعاهدة حفاظًا على الهدوء العسكري النسبي واستقرار دول شرق اوروبا. والثاني، تنفيذ “رؤية ترامب” الساعية الى الانسلاخ من حقبة سلفه، باراك اوباما، والدخول في تسارع وسباق محموم، يرمي الى تطوير وانتاج الأسلحة النووية، مع كل من روسيا والصين.
“رؤية ترامب”
ان موقف الرئيس ترامب نابع، بحسب فريقه الرئاسي، من رغبته في التأكيد على التحرك نحو تعزيز قوة الجيش الأمريكي العسكرية، خاصة النووية منها. وان كان هناك شكوك حول هذا التحرك في الحقيقة، الا ان الهدف الأساسي يكمن في الإبتعاد بالساسة الأمريكيين ومراكز الأبحاث عن تهمة انتماء فريق البيت الأبيض الى روسيا، والتي يحاول بعض المعارضين استغلالها خصوصاً بعد الإتهامات بالتدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، العام 2016.
الى ذلك، يرى الرئيس الأمريكي ان هذا الإنسحاب، او حتى التهديد به، من شأنه ان يضع الساسة وقادة الجيش السابقين في خندق واحد معه، حيث ينظر الكثير الى هذه الاتفاقية بنظرة سلبية خاصة في حالة وقوع حرب واسعة مع الصين، على سبيل المثال والتي ليست طرفاً فيها، التي انفقت اموالاً طائلة على انتاج الصواريخ التقليدية في وقت تحظر فيه المعاهدة حيازة واشنطن لصواريخ بالستية تطلق من الأرض او صواريخ كروز متوسطة المدى.
عوامل متداخلة
هنا يوجد سؤال مهم: لماذا اعلن الرئيس ترامب نيته الإنسحاب من المعاهدة في هذا التوقيت بالذات؟ يقول الكاتب والمحلل غسان مقدسي ان هذه المعاهدة هي الثالثة دولياً التي ينسحب منها ترامب. اما عن تبريره المعلن للإنسحاب من هذه المعاهدة فيكمن في عدم رغبته بالسماح لموسكو بتصنيع اسلحة متطورة جديدة في حيث ان بلاده مقيدة. الا ان الدوافع الحقيقية وراء ذلك فهي:
- الضغوط الداخلية التي يواجهها من قبل “صقور” الجمهوريين غير الراضين عن المعاهدة وعلى رأسهم مستشار الأمن القومي، جون بولتون.
- اعتقاد الرئيس ترامب ان روسيا بدأت تستعيد قوتها على الساحة الدولية مما يعني ان العالم سيصبح “متعدد الأقطاب” وهذا ما لا تريده الولايات المتحدة.
- وقوف روسيا الى جانب سوريا في الحرب على الإرهاب وقلب موازين القوى.
- العلاقات الجيدة بين روسيا وايران، خصم للولايات المتحدة.
- الأزمة الأوكرانية وعودة القرم الى روسيا.
- تحديث روسيا للصواريخ العابرة للقارات وتطويرها لصاروخ “كروز – 27 أس.أس” الذي جعل الأمريكيين يشكون بأن الروس خروقوا المعاهدة.
إستهداف أوروبا
لا يقف الرد الروسي عند حد التصريحات، بل قد يتعداه الى مواقف اهم واشمل، ابرزها:
- التهديد بإعادة اطلاق سباق تسلح جديد، قد لا توقفه اية اتفاقية مقبلة، ناهيك عن استهداف القواعد العسكرية المحيطة بروسيا من جهة اوروبا.
- تهديد قوات الناتو في العديد من المناطق في العالم خصوصاً مع وجود روسيا خارج الحدود، ابرزها في ارمينيا وبيلاروسيا وفيتنام وكازاخستان وسوريا وطاجيكستان وابخازيا وغيرها.
- التحرك اكثر نحو شرق اوروبا. فبعد ضم الروس لشبه جزيرة القرم التي كانت ضمن النطاق الأوكراني، لا يمكن ان يستبعد احداً توجه “الدب” الروسي نحو المحيط الأوروبي لضم المزيد من الأراضي خاصة من دول البلطيق، وهو ما يعني انتهاء نظرية الأمن الجماعي التي يحاول الجميع تطبيقها وتثبيتها بتوازن القوى بين القطبين لا سيما وان هذه المنطقة الملتهبة قد تكون الشرارة التي تشعل فتيل الحرب.
من هنا، تساءل الرئيس بوتين عما ستفعله الولايات المتحدة بالصواريخ الجديدة بعد خروجها من المعاهدة، مشيراً الى انه في حال تم نشرها في دول اوروبا ان على الدول المضيفة ان تعي خطورة هذه الإستضافة لأن روسيا ستكون مجبرة على الرد في حال حدوث هجوم عليها.
الى ذلك، اعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، ان بلاده تدين محاولات الابتزاز التي تقوم بها واشنطن والتي تهدف الى نزع تنازلات من موسكو في مجال الإستقرار الإستراتيجي، مضيفاً “اذا واصل الأميركيون بالخروج من جانب واحد من الإتفاقات والآليات الدولية المختلفة، والأمثلة تتضاعف من خطة العمل الشاملة المشتركة حول ايران حتى الإتحاد البريدي العالمي، فلن يبقى لنا سوا ان نتخذ تدابير ردية، بما فيه ذو طابع عسكري تقني، لكننا لا نريد ان نصل لذلك.”
إنعكاسات على المشرق
لن تبتعد تداعيات وانعكاسات اي تصعيد محتمل بين الولايات المتحدة وروسيا على منطقة المشرق الغارقة بالكثير من الملفات والقضايا التي ما زالت عالقة بين البلدين. فبخلاف ما يحدث في الوقت الراهن من تشدد في مواقف الدولتين تجاه بعض الأزمات كسوريا وليبيا، يبدو ان كل طرف سيحتفظ بأوراقه المختلفة في هذه الأزمة لزيادة الضغط على غريمه في صراع لن يقف عند حدود المعركة العسكرية بل قد يشمل كافة المجالات، التجارية والدبلوماسية والصناعية. ومما لا شك فيه بأن هذا التشدد سيعود بنتائج سلبية على ازمات المنطقة، خصوصاً تلك التي تشهد صراعات عسكرية.
الى ذلك، يرجح العديد من المراقبين ان اتجاه واشنطن الى الانسحاب من المعاهدة يصب في جزء منه في مصلحة اسرائيل لا سيما مع تنامي حدة الخلافات الروسية – الإسرائيلية من الملف السوري وتداعياته مروراً بالعلاقات الجيدة بين طهران مع موسكو وصولاً الى اتهام الأخيرة لتل ابيب بإسقاط طائرة “إيل-20” حيث يمكن قراءة الموقف الأمريكي من الإتفاقية من هذا الباب لا سيما بعد اعلان الحكومة الروسية تزويد القوات السورية بصواريخ “إس.300”.
خلاصة القول، يبدو ان الإنسحاب من الإتفاق لا يعني بالضرورة اندلاع حرب نووية بين الشرق والغرب، لكن قرار الرئيس ترامب اثار مخاوف من تسارع السباق التسلح عبر تطوير وانتاج الأسلحة النووية لكلا المعسكرين. يبدو ان واشنطن تريد البقاء على قمة النسق الدولي من خلال تفردها بحكم العالم وادارته، غير ان ذلك قد لا يعود ممكناً بسبب صعود العديد من القوى، كروسيا والصين والهند على سبيل المثال. وما يعزز هذا الموقف ما اشار اليه الدبلوماسي الروسي السابق، فياتشسلاف ماتوزوف، اذ قال “لا اتصور ان هناك ملامح حرب باردة، لكن طرح موضوع انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة، سيكون لمصلحة روسيا وليس لمصلحة الولايات المتحدة.”
مصدر الأخبار: وكالات.
مصدر الصور: الإمارات اليوم – الجزيرة.