العميد م. ناجي ملاعب*
إبعاد الجيش عن الإقتصاد كان أحد مطالب الثورة السودانية، والتي على أساسها تم الإطاحة بالرئيس عمر البشير. لكن إشراك العسكر داخل منظومة الحكم الجديدة عمَّق الخلاف بين المؤسسة العسكرية والحكومة المدنية حول هذا الملف الإصلاحي.
لم يعد سراً أن يبادر رئيس الحكومة السودانية، عبدالله حمدوك، إلى التفكير في تخفيض حجم الإنفاق العسكري بشكل كبير في ظل الظروف الإقتصادية الصعبة التي تواجهها البلاد، لا سيما وأن الجيش يستحوذ على أكثر من 80% من موازنة الدولة. وقد يمثل القانون الأميركي حول الرقابة على القوى العسكرية والأمنية في سودان ما بعد “ثورة ديسمبر” محفزاً للحكومة في التغيير المنشود.
من هنا، سنعرض ضمن مقاربة زمانية لكيفية إنخراط الجيش في مؤسسات الإقتصاد السوداني، والمطالب الدولية لتأمين حُسن “الإنتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية”، ومكمن المعوقات الحالية، والنتائج المتوقعة.
مقاربة زمانية
في سبعينات القرن الماضي، إعتمد الرئيس جعفر النميري (1969 – 1985) سياسة تغليب السلطة العسكرية، وقد فسّر بعض الخبراء ذلك “من باب التملق للقوات المسلحة وكسبها”، فأسس ما أسماه بـ “المؤسسة الإقتصادية العسكرية” التي دعمت العسكريين بتمليكهم المعدات والأجهزة الكهربائية والمواد التموينية والسيارات بالأقساط من خلال تحالف مع طبقة رجال الأعمال والتجار السودانيين، وبذلك سجل سابقة إقحام القوات المسلحة في النشاط الإقتصادي.
أما في مرحلة إنقلاب الإسلامويين وتبوء عمر البشير سدة الرئاسة وحكم البلاد (1989 – 2019)، فقد عانى السودان أسوء المخاطر على وحدته وإستقراره بدءاً بـ “الجنجاويد”، فقوات حرس الحدود، ثم “قوات الدعم السريع” عندما أصبحت أكثر القوى التي يأتمنها البشير على نفسه ونظامه، فقصتها من حيث التأسيس والتطور والتمدد والقدرات المالية الهائلة من خلال شركات الذهب والتصدير والإرتزاق معروفة للجميع، إضافةً إلى تركيبتها العرقية والجهوية، وطبيعتها البدوية العدوانية والتسلطية… إلخ، وكيف أنها أصبحت عموداً فقرياً للجنة البشير الأمنية.
هيئة التصنيع الحربي
نشط في ذاك العهد التصنيع العسكري الوطني، وأعلن وزير الدفاع السوداني، الفريق أول عبد الرحيم محمد حسين، أن بلاده تجاوزت مرحلة الإعتماد على الخارج في توفير إحتياجات القوات المسلحة من الآليات والأسلحة. وشاركت هيئة التصنيع الحربي السودانية، لأول مرة، بعرض صناعاتها الدفاعية في معرض معدات الدفاع العالمي “أيدكس”، المنعقد في العاصمة الإماراتية أبو ظبي ما بين 17 – 21 فبراير/شباط 2013.
ففي العام 1993، إنطلقت هيئة التصنيع الحربي بأشراف وزارة الدفاع السودانية، وهي تعمل في 8 مجالات؛ كتصنيع قطع الغيار وتحديث خطوط الإنتاج وصناعة عربات النقل الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، بالإضافة إلى تصميم وصناعة الزوارق والقوارب والسفن النهرية، وبناء وتأهيل وصيانة السفن والقطع البحرية، وأنظمة التدريب والتأهيل.
وقال علي عثمان محمود، مدير إدارة العلاقات الخارجية في الهيئة، أنه “يتم، بأيادٍ وخبرات سودانية تصنيع الملابس والأحذية العسكرية، والمستشفيات العسكرية المتحركة، ودبابات القتال الرئيسية وناقلات الجند المدرعة والمجنزرة والمدولبة، والمدافع ذاتية الحركة، وعربات المهام الخاصة. كما يتم تصنيع البنادق الألية الخفيفة والمتوسطة وقواذف القنابل ومضادات الدروع مضادات الطائرات، والمدافع المتوسطة والثقيلة”، مضيفاً أن الهيئة “تنخرط بشكل فعلي في تصميم وتصنيع الطائرات الخفيفة، وصيانتها وتأهيلها وتدريب الطواقم الجوية والأرضية، وصناعة أجهزة الإتصالات العسكرية والأجهزة الكهرو – بصرية وأجهزة تحديد المدى والتصويب بالليزر، وأنظمة الإستطلاع الأرضي والبحري والجوي، ومشبهات التدريب، وأنظمة الرادارات بمختلف أنواعها، وأنظمة القيادة والسيطرة والحرب الإلكترونية، وأنظمة الجنود القتالية والبرمجيات المستخدمة في الأنظمة الدفاعية.”
هيكلة المؤسسة العسكرية ما بعد الثورة
وفقاً لإحصاء العام الحالي (2020)، يضم الجيش السوداني قرابة 189 ألف جندي، بينهم 85 ألف جندي في قوات الإحتياط، بينما تتفاوت التقديرات لأعداد قوات الدعم السريع، لكن تقرير مراقبة الحدود، الصادر في أبريل/نيسان العام 2017 عن مشروع “كفى” ومقره واشنطن، يحدد عددهم بـ 30 ألف مقاتل. ويحتل الجيش المرتبة رقم 69 على قائمة أقوى جيوش العالم، ويأتي تصنيفه ضمن أقوى 10 جيوش في القارة الأفريقية.
أضفت التغيرات المفاجئة والمتسارعة في صفوف الجيش السوادني، من إقالات وإعتقالات بالجملة، حالة من القلق على الكثير من الضباط، خاصة فيما يتعلق بتراجع عديد قواته العاملة إلى أكثر من النصف. وتزامن ذلك مع وضع معظم السلطات في أيدي قيادات بعينها تدين بالولاء إلى قائد قوات الدعم السريع، وأبدت بعض المصادر السودانية قلقها بشأن الهيكلة التي يروج لها المجلس العسكري، المنحل مؤخراً بعد تشكيل المجلس السيادي، حيث أن ما يروج له يذهب إلى الإبقاء فقط على 50 ألف مقاتل عامل، معظمهم سيكون من “قوات الدعم السريع” التي يرجح أن تندمج في صفوف الجيش، لتصبح عماد القُوة البرية المُقاتلة، وهو ما يعني الولاء الكامل لقائدها في إطار التشكيلة الإثنية والقبلية لهذه القوات، وهو ما يحمل الخطورة على وحدة وإستقلالية القرار العسكري للدولة السودانية، على حد المصادر.
قانون أميركي يمهد لـ “الإنتقال الديمقراطي في السودان”
بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول 2020، صادق الكونغرس الأمريكي على مشروع “قانون الإنتقال الديمقراطي في السودان والمساءلة والشفافية المالية للعام 2020″، حيث يشدد القانون المقترح الرقابة على القوى العسكرية والأمنية في سودان ما بعد “ثورة ديسمبر”، كما يتضمن مشروع القانون ضرورة تقييم إنفاذ خطط إصلاحات القطاع الأمني وإعادة هيكلته بما يعزز سيطرة السلطة المدنية على كامل القطاع العسكري بمختلف تشكيلاته، واللافت أن مشروع القانون يحظى بدعم واسع من الحزبين الديمقراطي والجمهوري؛ لهذا، فقد تم إدراجه ضمن مشروع التمويل الدفاعي الذي مرره الكونغرس بإجماع كبير من الحزبين.
يتحدث القانون عن مراقبة أموال الأجهزة الأمنية والعسكرية، وأصولها وميزانيتها والكشف عن أسهمها في جميع الشركات العامة والخاصة، كما ينص أيضاً على ضرورة وضع لائحة بكل الأسهم في الشركات العامة والخاصة التي تديرها أو تملكها القوى العسكرية والأمنية، ونقل كل هذه الأسهم إلى وزارة المالية أو أية هيئة ذات اختصاص تابعة للحكومة السودانية.
كما يؤشر مشروع القانون إلى أهمية رسم وتطبيق خطة يمكن من خلالها للحكومة السودانية إسترجاع أية ممتلكات أو أرباح للدولة تم تحويلها لحزب المؤتمر الوطني أو لأي مسؤول فيه. ويتضمن فرض عقوبات تتراوح بين تجميد الأصول وإلغاء تأشيرات الدخول إلى الولايات المتحدة، وغيرها من عقوبات مما يطلق عليه مفهوم العقوبات الذكية، وهو مفهوم مغاير تماماً لما درجت عليه الولايات المتحدة في الثلاثة عقود السابقة من فرضها عقوبات شاملة تصب جام غضبها على الجميع.
تصفية ديون السودان بالبنك الدولي ومنحه مليار ونصف دولار سنوياً
تعتزم الحكومة الأمريكية تصفية متأخرات السودان لدى البنك الدولي البالغة مليار دولار أمريكي، والتي ستتيح للسودان الحصول على منح من المؤسسة الدولية للتنمية – IDA بحوالي 1.5 مليار دولار سنوياً لأول مرة منذ 27 عاماً.
بهذا الشأن، أعلنت وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي السودانية، عن ترحيبها بقرار وزير الخزانة الأمريكي، ستيفن منوشين، عن نية الحكومة الأمريكية مساعدة السودان في إعفاء ديونه وتسوية المتأخرات للمؤسسات المالية الدولية.
كما أوضحت الوزارة، في تصريح صحفي، أنه سيكون للمجتمع الدولي دور أساسي في مسيرة إستقرار الإقتصاد السوداني خلال الفترة الإنتقالية، خاصة بعد قرار رفع إسم السودان عن القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، والذي تم إعلانه يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2020، مبينة أن ذلك يعتبر إعترافاً بالتقدم الذي أحرزته الخرطوم في إقامة الحوكمة الرشيدة، ويفتح الطريق أمام المستثمرين الدوليين للمشاركة في نهضتها الإقتصادية.
أيضاً، أكدت وزارة المالية إلتزامها بتنفيذ الإصلاحات الإقتصادية التي تتخذها الحكومة الإنتقالية لتحقيق الإستقرار الإقتصادي من خلال معالجة التشوهات الهيكلية، وتشجيع الإستثمار وتعزيز النمو، وبناء إقتصاد مزدهر لجميع السودانيين، خاصة المجتمعات المهمشة والشباب والنساء.
القانون الأميركي والإستجابة الحكومية السريعة
في خطوة تبدو مواكبة لصدور القانون الأميركي، لفت رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك، إلى تداعيات إنخراط المؤسسة العسكرية في النشاط الإقتصادي الخاص، ومزاحمة الشركات الأهلية في المشروعات المدنية، معتبراً الأمر “غير مقبول” وأنه على الشركات التي يشارك فيها الجيش أن تتحول إلى شركات “مساهمة عامة” تسمح للمواطنين بالمشاركة فيها.
هذه التصريحات، التي يتوقع أن تكون صادمة لجنرالات السودان، جاءت خلال مؤتمر صحفي عقده حمدوك بمناسبة رفع إسم السودان من قوائم الدول الراعية للإرهاب، ومن المتوقع أن يكون لها تداعياتها الإيجابية على الإقتصاد السوداني وإنهاء عزلته الدولية.
أيضاً، أشار حمدوك إلى أن كل جيوش العالم لديها علاقات إستثمارية لكنها تتعلق بنشاطهم الدفاعي والعسكري، كالإستثمار في الصناعات الدفاعية والتسليحية وأن هذا أمر مشروع ومهم بالنسبة للدولة ككل، مستدركاً أن الإستثمار في قطاعات الإنتاج ربما يأتي بنتائج عكسية، الأمر الذي سيعود بالنفع على الشعب السوداني بأكمله.
وحث رئيس الوزراء على ضرورة وضع إطار منهجي وخطة زمنية للمضي قدماً في معالجة الوضع الحالي، وإدراج المؤسسات المملوكة للجيش في بورصة الشعب بما يمكن الجمهور الإستثمار فيها، متسائلاً “ما هي قدرتنا على تحقيق هذا الأمر؟! فالكلام والقول أسهل من العمل”.
إن سرعة تفعيل العمل بهذا القانون سيساعد الحكومة السودانية على مباشرة الخطوات اللازمة لإصلاح هياكلها ومؤسساتها المختلفة من أجل إحكام السيطرة المدنية اللازمة لتحسين الشفافية المالية، حتى يتسنى لوكالات الإدارة الأمريكية المساعدة ودعم خطوات التحول الديمقراطي كل في إختصاصه.
خطوات إصلاح القطاع الأمني
إن الأمن خدمة عامة مثل التعليم والصحة. والطريقة التي يُنظر بها إلى الأمن والتخطيط له وإدارته وتقديمه، تحتاج إلى إشراك المواطنين وليس فقط الأجهزة الأمنية النظامية.
وعلى الرغم من أن الثورة السودانية قدمت شعارات واضحة للمرحلة الإنتقالية، فإن هناك حاجة إلى صياغة هذه “الشعارات – المبادئ” في رؤية وطنية متفق عليها بشكل عام يتم إعتمادها خلال المؤتمر الدستوري المرتقب، بحيث ستوجه هذه الرؤية جميع الإصلاحات خلال المرحلة الإنتقالية لا سيما في قطاع الأمن.
لذا، ينبغي أن يكون فهم الوضع، من حيث الحجم والمهارات ومستوى الضرر المهني الذي لحق بالقطاع الأمني بسبب النظام الإسلامي الذي إعتُمد على مدى 30 عاماً، نقطة الإنطلاق لأية عملية إصلاح مستقبلي. كذلك، يُعد بناء المشكلة وتفكيكها من خلال عملية إستعراض شاملة وتشاركية أمراً أساسياً لإيجاد حل ذي طابع وطني.
وبالتزامن مع إستعراض الوضع الحالي لقطاع الأمن، ينبغي التسريع بتطوير إستراتيجية الأمن الوطني، وفق المبادئ الأساسية التالية:
– عقيدة جديدة من شأنها أن تغرس الهوية الوطنية بديلاً عن الإنتماءات القبلية، وتمهد لإعادة إندماج الجماعات المسلحة المطلوب دمجها.
– تحديد التهديدات الأمنية الرئيسية التي تواجه السودان، وصياغة إستراتيجية دفاعية تستجيب للإحتياجات الأمنية للتصدي للتهديدات.
– إعادة هيكلة قوام الأمن الوطني، وفق إستشارة دولية، تتمكن السلطة السياسية بموجبها من تحديد حجم القطاع، وإستيعاب متطلبات كل مقومات الأمن من تسليح وتجهيز وتدريب وفق إمكانيات الموازنة العامة للدولة.
– فصل مهام القوى العسكرية عن مهام قوى الأمن الداخلي، وقوننة تقسيم العمل بين الجيش والكيانات الأمنية الأخرى.
أبرز المعوقات
إن الإستجابة لمتطلبات الإنتقال الديمقراطي وفق القانون الأميركي، الذي كاد أن يتبنى ذات مواضيع وقضايا الإنتقال التي توافقت قوى الثورة حول ضرورة إنفاذها وأوضحها جلياً رئيس الحكومة في مؤتمره الأخير، هو الطريق الأمثل للعبور الى بناء الثقة بالدولة. وكما رسم رئيس الوزراء في مؤتمره، فإن “ألف باء” إستعادة الثقة تبدأ بتقليص إضطرادي لتدخل المؤسسة العسكرية في الإقتصاد السوداني.
وكانت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية قد نشرت قبل فترة تقريراً إستعرضت فيه أبرز الشركات التي تقود إستثمارات الجيش، والمملوكة في الأساس إلى أسماء بارزة في القوات المسلحة السودانية، أو على الأقل مملوكة لأشخاص من ذات العائلة أو من أقارب الدرجة الأولى. وبحكم الطبيعة الجغرافية للسودان، فإن أبرز موردَين إقتصاديين للبلاد هما الزراعة والتعدين، وهما الموردين المُسيطر عليهما من قبل عائلات على علاقة قوية بـ “أباطرة المال” داخل الجيش والنخبة الفاسدة في الحكومة، أو كما يطلق عليهم في السودان “عصابات المافيا”، وذلك بحسب تقرير للقناة الألمانية الأولى – ARD.
في الخلاصة
لم يكن لهذا الإهتمام الأميركي في دعم السلطة الجديدة في السودان لولا الإعتبارات الإستراتيجية لواشنطن، وأهمها إستباق التدخل الصيني القوي في جنوبي ووسط القارة السمراء ومحاولة صده من الولوج شمالاً، من جهة، وإستغلال الوضع الإقتصادي المزري الذي وصلت اليه البلاد في حكم الإسلاميين والعقوبات برهن إنفكاك القعوبات الدولية بتسهيل قيام تطبيع علاقات مع إسرائيل، من جهة ثانية.
لقد لاقت الخطوات الأميركية الكثير من الإنتقاد المحلي والعربي. ما يعنينا ليس الشأن السياسي الذي نعتقد جازمين من أن قوى الثورة قادرة ومعنية بما تخطط له وتلتزم به، ولكن ما يعنينا هو الشق الأمني تحديداً، أن لا يقوى أي مشروع لمناهضة هذا القانون بدعوى إستقلال القرار الوطني وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، طالما أنه سوف يعيد كل قطاعات الدولة، بما فيها القوى الأمنية والعسكرية، إلى صيغتها الصحيحة الخاضعة للمراقبة والشفافية والمساءلة.
*عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية”.
مصدر الصور: سبوتنيك – الحرة – سي.أن.أن عربية.
موضوع ذا صلة: إتجاهات الإقتصاد السوداني ما بعد الثورة