بعد ما يُقارب الـ 9 سنوات من عمر الحرب على سوريا وإنخراط عشرات الدول في محاولة إسقاط الدولة بالقوة غير آبهين بالقيمة الإنسانية للمواطن السوري الذي دفع من دمه مقابل التصدي لهذا المشروع، لا زال هناك فريق يصور الأزمة على أنها حرب أهلية تحاكي القتال الطائفي مبتعداً كلياً عن الشارع السوري وأخلاقياته رغم إصطدامه بمجريات الواقع الجديد الذي شكل صدمة لغالبية الشرائح السورية وإلى يومنا هذا.
تحريف للوقائع
على الرغم من ثبوت تورط الكثير من الدول الغربية والعربية في الملف السوري، قبع كثر خلف الشاشات وبدأوا بتحليلات لا يُفهم منها إلا التخوين والتجريم والإتهامات، فتحول الوضع في سوريا إلى محاولة إظهار زيف هذه الإدعاءات التي لم تلق آذاناً صاغية لكل من يكره دمشق.
لقد حاولوا توصيف الوضع على أنه طائفي بين شيع وأحزاب ضد أخرى، متغافلين أنهم قبل العام 2011 كانوا من الهاتفين والمتوددين لهذا الحكم. وما إن بدأت الحرب وبعيداً عن تفاصيل المخطط الذي بدأ رسمه منذ العام 2005، خرجت فئة لتؤكد سيناريوهات مطابخ الغرب حول أن الحرب طائفية، وأن العلويين هم المستفيدون من مفاصل الحكم وما شابه ذلك. هنا، لن نستعرض كلاماً بات معروفاً للجميع منذ بدء الأحداث التي إنطلقت شرارتها في درعا المحاذية للحدود الأردنية، وإتهام الأجهزة الأمنية هناك بـ “قلع” أظافر الأطفال دون أي دليل على ذلك.
لم ننسَ كيف خرج الشيخ أحمد الصياصنة محولاً بيوت الله، جامع العمري بالتحديد، إلى مخزن للأسلحة، على الرغم من لقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، بوجهاء محافظة درعا، وتحقيق مطالبهم المحقة. لكن ما لبث أن تطور الموضوع ليتحول إلى ما شاهدناه بأم الأعين من قتل وتنكيل بعناصر الجيش السوري والقوى الرديفة، متخذين من الحدود الأردنية بوابة عبور مع أنه ليس سراً أن “غرفة الموك”، التي إحتوت على أجهزة المخابرات العالمية تمركزت في الأردن. فعلى ماذا إستند مهاجمو العلويين معتبرين صبغة الحكم طائفية فيما كانت الشرائح الأخرى تدافع عن الجميع بمن فيهم السنة والمسيحيين والطوائف والأقليات الأخرى؟!
إنشقاقات إفتراضية
إن تضخيم وتصوير أن كل منشق أخذ معه لواء كامل أو فرقة كاملة غير صحيح فلقد تانسوا أن هذا الجزء لو كان صحيحاً لما كان اليوم هناك جيشاً إسمه الجيش العربي السوري، الذي حرر ما يعادل الـ 90% من الأراضي وهو على قاب قوسين أو أدنى من تحرير الشمال السوري الذي يتحصن فيه ما يقارب الـ 38 ألف إرهابي من سوريين وجنسيات أخرى جلها التركستان – الإيغور والشيشان والأذريين.
إن الناظر إلى حجم العلاقة بين الحركات “الجهادية” والنظام التركي يتأكد أن هؤلاء تم إستقدامهم بالأجرة ومقابل عروض مادية سخية دُفعت من دول كثيرة. فتركيا تحوي أكبر جالية للتركستان القادمين من مقاطعة شينجيانع الصينية، كما أن لقاء الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مؤخراً مع نظيره الأذربيجاني، إلهام علييف، في مسألة إطلاق مشروع غاز “تاناب” إلى الأراضي الأوروبية، أكد خلاله الرئيس علييف ولائه للنظام التركي وإرساله لما يقارب الـ 5000 آلاف أذربيجاني للقتال في كل من سوريا والعراق دعماً للولاء التركي، وهذا ما يفسر إحياء أنقرة لعقيدتها “الطورانية” وجمع إتحاد إخواني تستثمره في عدد من الملفات، لعل الأبرز فيها، وفقاً للترتيب، سوريا والعراق والصين وليبيا.
تحدي للكبار
إن ما يقوم به النظام التركي يؤكد أن حجم المخطط أكبر مما يتخيله العقل البشري، والسؤال المطروح هنا: لماذا لا تحدث المشاكل والثورات إلا في البلاد الغنية بالنفط والغاز؟
ربطاً مع الإحتجاجات العراقية واللبنانية وقبلهما السورية والليبية، إن ما يجمع هذه الدول هو غناها بالنفط والغاز، وهذا الأمر يشكل حجر عثرة في طريق الغرب الذي يريد الإستحواذ على مقدرات تلك الدول. فلو أخذنا ليبيا مثالاً، والتي تعود لمذهب واحد أي “السنة”، فهم لم يستطيعوا تصوير الوضع على أنه حرب طائفية وأهلية، إنما حولوه إلى حكومة شرعية وأخرى غير شرعية؛ وما دخول تركيا على خط الأحداث في ليبيا مؤخراً، وبهذه القوة، إلا لبسط سيطرتها على النفط الليبي، ومن ثم على الغاز في البحر المتوسط، خاصة في الجهة المحاذية لجزيرة كريت اليونانية، علماً أن العراق وسوريا ولبنان يملكون مخزوناً كبيرة من هاتين المادتين.
ومع الدخول الصيني القوي من بوابة مبادرة “حزام واحد.. طريق واحد”، رأت تركيا، في المقام الأول وبالدرجة الأولى، أن المسألة هي وقوف الشيوعية بوجه الإسلام من خلال تجييش المسلمين والذين يشكلون قوة كبيرة في الصين. فما مصلحة تركيا كل من ذلك؟
ما يمكن ملاحظته هنا أن تركيا تعمل بشكل مستقل غير آبهة بالقوانين والأعراف الدولية ظاهرياً، لكنها في حقيقة الأمر هي أداة بيد الولايات المتحدة، فلولا أن هناك ضوءاً أحمراً أمريكياً لما تجرأت على الدخول بقوة في هذا الملفات على الرغم من يقينها من أن واشنطن كانت على علم بإنقلابها الأخير، العام 2016، ولم تجنب الرئيس أردوغان عيش ما عاشه آنذاك.
أنتم الطائفيون
بالعودة لمن يتحدث عن الحرب السورية بأنها حرب أهلية وطائفية، سنورد أمثلة بسيطة من أرض الواقع. لبنان، الذي يشكل الشيعة فيه نسبة تعتبر كبيرة مقارنة بالطوائف الأخرى وبعيداً عن الأسباب السياسة التي أدخلت النازحين السوريين، لم يقدم شيعي أو علوي أو مسيحي فيه على قتل أي نازح سوري، وفي سوريا حضن الساحل السوري، منذ العام 2012، إخوته من محافظات عدة وأكثرهم من مدينة حلب ذات الغالبية السنيَّة. وعلى الرغم من أن عدد شهداء الساحل السوري يقدر بالآلاف، لم تقع أية حادثة إنتقامية واحدة من أية عائلة رداً على إستشهاد ولدها في معارك حمص أو حلب أو غيرها.
هذا الطرح يشبه مسرحيات الهجمات الكيماوية، إذ بات المتابع والمعادي للدولة السورية يصور أن العلويين يقتلون الأطفال والنساء والشيوخ السنة والتي ثبت فيما بعد على أنها مسرحيات لا أكثر. مؤخراً، خرجت وثائق من موقع “ويكيليكس” تؤكد تحريف التقارير المتعلقة بإستخدام الغازات السامة في مدينة دوما بريف الغوطة الشرقية.
على المقلب الآخر، لا يوجد دولة فاضلة، إبتداءً من رأس الهرم الولايات المتحدة، إلى أصغر دولة في العالم، فكل الدول يعصف فيها الفساد وتعاني من الأزمات، ويخرج منها أشخاص مقنعين يمثلون أنفسهم لا المركز الذي يمتهنونه. فرئيس وزراء سوريا الأسبق المنشق، رياض حجاب، وعلى الرغم من تقلده لعدة مناصب، أثبت أن مرجعيته وولاءه لـ “الإخوان المسلمين” متخذاً من قطر مقراً له، وهو بذلك يمثل نفسه لا الدولة السورية، كذلك بعض الإعلاميين. فلو أن مواقفهم تلك كانت حقيقية، لما إنتظروا هذه الأحداث للتعبير عن موقفهم الذي لا يفسر إلا أنه أنانية ونرجسية شخصية لا تمت إلى قيم سوريا التي تربى الشعب عليها.
بالنسبة إلى القضايا الإقليمية المركزية، يمكن الإشارة إلى ما قدمته الدولة السورية للفلسطينيين من إميتازات لم تقدم لهم في دولة أخرى، وأقصد هنا القيادات وليس الشعب الفلسطيني حيث كان خالد مشعل أول المنقلبين، حيث عرت هذه الأزمة الجميع، ووضعت “سعراً” لكل شخص قرر أن يعاديها بتحوله إلى سلعة يباع ويشترى.
بالمحصلة، إن الدفاع هنا نابع من الموقع الأخلاقي والإنساني، فسوريا بالنسبة إلى مواطنيها هي “جنة الله على الأرض” على الرغم من ويلات الدمار الحاصلة فيها ودرب الإنتصار طويل. ففي حلوها ومرها، تبقى البلد الأغلى، وللمشككين فيها، أياً كانوا، يمكن القول “لقد إخترتم الرقص على حبال سياسات الدول التي تعيشون فيها فمن لا خير فيه لبلده لا خير لبلدٍ آخر منه.” لقد تربع الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، والزعيم أنطون سعاده، وغيرهما ممن خلدتهم مواقفهم، على عرش العالمية، بينما سيبقى كل المتجرئين على سوريا صغاراً يلفظهم التاريخ من حساباته ودفاتره.
*المدير التنفيذي في مركز سيتا.
مصدر الصور: سبوتنيك.
موضوع ذو صلة: الحرب على سوريا: إنتهت.. لم تنتهِ