السفير د. عبدالله الأشعل*
الملاحظ أن صورة الدولة تتكون من مصادر متعددة بعضها تاريخي، لا علاقة له بالحاضر، وبعضها معاصر متغير؛ وسوف أقصر حديثي فى هذه المقالة على مصر مقارنة بأمثلة نظيرة، ولكن يكفي أن نقول في البداية أن الدول تتحدد صورتها لدى الدول الأخرى بشكل يختلف عن تشكل هذه الصورة عند الرأى العام الداخلي في الدولة أو خارجها.
لا يزال البعض في الخارج يعتقد أن مصر، مثل الجزيرة العربية، تركب فيها الجمال رغم تطور وسائل المعرفة، كما أن الرأي العام الأمريكي، الجماعي والفردى من خلال مناقشاتي هناك، لا يزال يعتقد بأن مصر عربية أي ترتدي العقال وأزياء الخليج، وإن كان بعض المثقفين يعتبر مصر غير عربية ولها تاريخ مختلف وحضارة مختلفة وأنها متأثرة بشكل أكبر بأوروبا والغرب. كما يعتقد هؤلاء أن مصر تعاني ليل نهار، وفي ربوعها كمية كافية من الإرهاب، الذي يئن المجتمع المصري تحت ضرباته. ولكن المثقفين من هذا الرأي العام يقولون أنهم استنبطوا تلك الخلاصة من بيانات الحكومة والتصريحات الرسمية المتناقضة، فهي تقول أن وظيفتها الأساسية هي مواجهة الإرهاب؛ وفي نفس الوقت، تطلب من السياح والمستثمرين القدوم إلى مصر، فيما يبدو معلوماً تاماً بأن الإرهاب لا يوفر المناخ الملائم للسياحة والإستثمار كما أن الحكومة، في كل مناسبة، تقول أنها تحمي أوروبا من “الإرهاب الإسلامي”، المنطلق من مصر، وتحذر من الأقليات الاسلامية في أوروبا مما ياخذه اليمين المتطرف مأخذ الجد ويمارس ممارسات عنصرية ضد المسلمين ثم نُتهم في الغرب بأننا نعادي “الإسلاموفوبيا”. في أحد المرات قال لي أحد المفكرين صراحة أن “الحكومات الإسلامية هي التي تمارس الإسلاموفوبيا، فلاتلومونا بل لوموا أنفسكم.”
أما صورة مكافحة الإرهاب، فهي متناقضة عند الرأي العام الغربي وعند الحكومات التي تفهم دقائقها؛ وأما احترام حقوق الإنسان، من جانب الحكومة المصرية، فلديهم التقارير ولديهم أيضاً البعثات الدبلوماسية التى ترصد الواقع وتقارن بين النصوص والواقع، وقد بدا ذلك جلياً في بيانات الدول الغربية عند المراجعة الدورية لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان، في نوفمبر/تشرين الثاني 2019.
لا شك أن أداء المسؤولين مع الخارج والأجانب يعتبر مصدر من مصادر تكوين صورة مصر، فعندما يظهر قاضٍ في محكمة الجنايات وهو يتلعثم باللغة العربية وفي القرآن الكريم في بلد الأزهر فإنه يثير علامات الإستفهام حول دور الأزهر في تعليم اللغة العربية خاصة، لا سيما وأن هؤلاء القضاه ليسوا من الأجيال الجديدة التي قل حظها من التعليم واللغة.
أما سلوك كل من الإعلام والأمن، فهما يعتبران من أهم مصادر تكوين الصورة لدى الحكومات والرأي العام، وهو يحتاج إلى مراجعة جدية وكذلك سلوك المواطنين المصريين وخاصة المسؤولين فى الخارج. وإذا قارنا الوضع بين مصر والولايات المتحدة، على سبيل المثال، نلاحظ أن سلوك الرئيس دونالد ترامب الشخصي ومواقفه الرسمية تتناقض عند الرأي العام، فمنهم من يعجب بحرصه على “إبتزاز” العرب والخليج ومهارته في ذلك، ومنهم من يستهجن وينكر سلوكه الشخصي. لذلك، فأن الرأي العام منقسم حول عزله خاصة وأنه صوَّر الأمر على أنه خلاف وتنافس بين حزبي الجمهوريين والديمقراطيين، وأنه يصعب تقديم تقييم موضوعي لسلوكه.
ولكن سلوك الأمريكيين في الخارج والإعلام الأمريكي لا يؤثر مطلقاً على صورة الولايات المتحدة كدولة عظمى، وأن كانت قد قدمت في العراق صورة سلبية للغاية، لا سيما سجن “أبو غريب”، لأخلاقيات الدولة العظمى ولا يقدح في هذه النتيجة اعتذار إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، عن هذا السلوك الهمجي لسلطات بلاده العسكرية، ولا المحاكمات التي أُجريت للمتسببين في هذه المأساة الاخلاقية. أما الرأى العام العربي في اجماله، فهو يعتقد أن الحكومة الأمريكية وسياساتها تختلف تماماً عن المجتمع الأمريكي بل أن الجامعة الأمريكية فى القاهرة، مثلاً، توفر مناخ الحرية الذي يفتقده الطلبة المصريون في الكثير من القضايا وأحدثها مظاهرة الطلبة في الجامعة نفسها ضد السياسة الأمريكية في فلسطين. فمنذ سنوات، إعترض هؤلاء الطلبة أيضاً على استقدام استاذ إسرائيلي كان يشجع الإستيطان في فلسطين، وامتداداً لهذه الصورة هناك حركة مقاطعة شاملة لكل ما هو إسرائيلي خاصة في المستوطنات التي تجتاح الولايات المتحدة وأوروبا. فلماذا يميز الرأي العام بين الصور السلبية، التي تنال من مكانة الدولة في الخارج عندما تكون دولة متخلفة، بينما لا تهتز صورة الدولة المتقدمة من خلال نفس المصادر المكونة لصورتها؟
في المجتمعات المغلقة، يكون أي فرد، من مجتمع أجنبي، ممثلاً لهذا المجتمع؛ فإذا رأينا يابانياً أو هندياً في مجتمعاتنا، فأننا نعتبر أنه نموذج للمجتمع الياباني أو الهندي وهذه نظرة قاصرة، ولكن هذه النظرة القاصرة لا تختص بها الدول المتخلفة وحدها ذلك أن بعض الأفراد في أوروبا يضطهدون المسلمين لمجرد أنهم مسلمون ويضطهدون حجاب المسلمة بخلاف الحجاب من أية ديانه أخرى، ولا يحتجون على عمامة السيخ وأذقان الحاخامات الطويلة بينما يحتجون على لحى المسلمين ويعتبرون أنها من علامات التخلف فيطلقون أحكاماً عامة على الدين ويتجاوزون عن الأفراد علماً بأن المسلم ليس حجة على الدين وليس مرأة له وإنما الدين حجة على الجميع.
فهل يمكن القول بأن حالة التخلف في الدول المتخلفة، وهي حالة يغلب عليها السذاجة وليس العدوانية، تتساوى مع حالة التخلف التي تصيب المتطرفين في أوروبا والغرب عموماً بل أن هؤلاء المتطرفين يفسرون اضطهادهم لأتباع الديانات الأخرى بأنه من قبيل ممارسة الحرية والمثال الصارخ لذلك هو الرسوم المسيئة لنبي الأمة في أوروبا منذ سنوات ولا يقابل ذلك اضطهاد لأتباع العقائد الأخرى الأرضية أو السماوية؟
هذه ظاهرة ثقافية اجتماعية تحتاج إلى تفسير لكن الخلاصة هي أن الدولة المتقدمة تظل في نظر الخارج متقدمة مهما كانت الشوائب أو سقطات المسؤولين، والسبب في ذلك هو أن الثقة في النظام الذي يسودها كفيل بتصحيح الأوضاع وهذا ما يكسب إسرائيل الكثير من المصداقية عندما تحاكم رئيس الوزراء في مقابل الفساد والدكتاتورية الموجودة في المنطقة العربية وضعف الجهاز القضائي وعدم الثقة فيه. أيضاً، هذا هو السبب في أن المستثمر الأجنبي يصر في عقد الدولة على أن تسوى المنازعات بينه وبين الحكومة عن طريق التحكيم الدولي وليس عن طريق القضاء الداخلي لأن سمعة الحكومات في الدول المتخلفة وفسادها معلوم عند هذا المستثمر منذ البداية، وأن التسهيلات الإستثمارية في القوانين ليست إلا طعماً لإجتذابه. لذلك، يعتمد المستثمر في ضمان استثماره على حكومته والإتفاقية المبرمة بينها وبين الدولة المتخلفة ذلك أن حكومة تلك الدولة، إذا ما أخلت بهذا الإتفاق وموضوعه حماية وضمان الإستثمار، تكون قد أساءت إلى دولة المستثمر من خلال إساءتها إلى المستثمر نفسه، وهذه الحالة تستند إلى دستور دولته التي تتكفل بحمايته وحماية مصالحه في الخارج، إضافة إلى أنها تستطيع هذه الدولة أن تبسط عليه الحماية الدبلوماسية عند اللزوم.
والسؤال هنا: كيف يمكن حماية صورة مصر من المصادر الكثيرة التي تشكل هذه الصورة خصوصاً في منطقة الخليج حيث كان المصري فى بلده مكرماً وكان العرب يتمنون القدوم إلى بلاده والإستمتاع بفنه؟ عندما إفقتر المصريون اضطروا للهجرة إلى بلاد النفط وتلك كانت ضربة قاصمة للمجتمع وصورة مصر في الخارج، فقد كانت “مصر الملكية المدنية” تشبه واشنطن بالنسبة إلى مثيلاتها من الدول، وعندما قدم إليها بعض العرب، في أوائل الخمسينات، كانوا قد أصيبو بصدمة حضارية خطيرة، ليعاصروا بعدها تدهورها منذ ذلك الوقت وهوانها على أهلها وكذلك هوانها على العرب أنفسهم.
إن تصحيح الصورة يبدأ بتصحيح الأوضاع، واستغلال الثروات، واستعادة كل المصريين في الخليج لكي يكونوا قوه انتاجية ضاربة، واعادة صياغة المجتمع المصري على أساس الحرية والديمقراطية واحترام انسانية الإنسان والتخلص من العناصر الإنتهازية التي سخرت مصر لمصالحها الشخصية فأساءت إلى هذا المجتمع وإلى مصر نفسها. فمصر هي بلد لكل من يحافظ عليها؛ أما من يتعمد أن ينخر السوس في أعصابها، فهو ليس مصرياً ولو كان ممن يمنحون الجنسية والنياشين.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: الرأي – البوابة.
موضوع ذا صلة: نافع: من حق الشعب المصري التعبير عمّا يريد