السفير د. عبدالله الأشعل*
شهدت المنطقة العربية، عبر تاريخها، هجمات شاملة تستهدف هويتها، وكانت هذه الهجمات سلبية تارة وإيجابية تارة أخرى وذلك في إطار الصراع بين الأقوام والشعوب والسكان، في العصور الوسطى، ذلك أن إستخدام القوة كان أساسياً في هذه الصراعات، حيث كانت الغلبة دائماً للأقوى والأكثر وحشية. وقد شهدت المنطقة عدة هجمات كبرى، كالهجمات العربية الإسلامية والعثمانية والمملوكية والمغولية والصليبية ثم أخيراً الهجمة الصهيونية بالإضافة إلى الغربية القديمة والحديثة فما مصير كل هذه الهجمات وما تداعياتها على المنطقة وكيف أثرت على طبيعتها وهوية سكانها؟
قبل هذه الهجمات، قام الإسكندر الأكبر بهجمة أخرى، قبل الميلاد، وكذلك الرومان، الذين تعقبوا اليونانيين وحلوا محلهم في البلاد التي سيطروا عليها. من الملاحظ أن مصر، التي كانت تحت حكم ملوك الفراعنة، قد تم غزوها عدة مرات من البلاد المجاورة؛ فكلما ضعف الحكم فيها وتصارع الحكام، تعرضت لهجمات الفرس وبلاد ما بين النهرين، أي العراق، بالإضافة إلى هجمات الإسكندر الأكبر زمن ثم الرومان، بعد ذلك لأكثر من ثلاثة قرون. كذلك، شهدت مصر الغزو العربي الإسلامي، ثم الغزو العثماني يليه الغربي، خاصة الفرنسيين والبريطانيين.
بالعودة إلى التاريخ القديم، تعرضت مصر لما تعرضت له المنطقة من هجمات، كما أننا لا نعرف على وجه اليقين متى انتهى العصر الفرعوني فيها؛ فهل وضع نهايته الإسكندر خاصة وأن الحكم اليوناني والبطلمي استمر بعد ذلك على خلاف العصور التاريخية الأخرى حيث تخللت الغزوات الأجنبية الحكم الفرعوني الذي كان يسترد مصر من الغزاة إذ حدث ذلك أكثر من خمس مرات؟ أم أن الحكم الروماني هو الذي أنهى الحكم الفرعوني؟ أم أن الحكم الإسلامي – العربي هو الذي أنهاه علماً بأن الثابت تاريخياً هو أن الإسكندر والبطالمة حكموا مصر حتى الغزو الروماني، العام 31 ق.م، وأن العرب المسلمين قد أنهوا الغزو الروماني؟
وإذا كانت المنطقة لم تتأثر كثيراً بالطابع اليوناني أو الروماني وظلت آثارهم تدل على حقبة واحدة من حقب التاريخ، فإن العرب المسلمين أعطوا المنطقة الهوية العربية والإسلامية وتبادلوا الحكم العربي – الإسلامي من دمشق إلى بغداد، أي الدولة الأموية التي فتحت الأندلس والدولة العباسية التي إستسلمت للمغول.
أما العثمانيون، الذين قاموا أصلاً على أساس الإسلام، فدخلوا إلى البلاد العربية على أنهم مسلمون ولم يغيروا النظام العام الإسلامي فيها بل أن جمهرة المؤرخين يعتبرون الغزو التركي عملية مركبة؛ فهو من وجه، تعميق للطبيعة الإسلامية للمنطقة ودفاع عن الإسلام ضد انتقام الإستعمار الغربي للغزوات العثمانية في قلب أوروبا. ومن وجه آخر، كانت حملة للغلبة والسيطرة على غرار الصراعات التي كانت سائدة في ذلك الوقت والملاحظ أن مصر والشام لم تتحالفا ضد العثمانيين، وإنما احتل العثمانيون البلدين، في عامين متتابعين 1416 و1417، وكانت الجيوش التي حاربت العثمانيين هي جيوش المماليك الذين لم يستعينوا بأبناء مصر أو الشام. لذلك، إن مصر والشام وقفتا معاً ضد أهم الغزوات والهجمات التي كانت تشكل تهديداً لهوية المنطقة ودينها، ونخص منها ثلاثة ثم نبين الفوارق بين هذه الثلاثة على وجه التحديد.
الهجمة الأولى، هي المغولية أي جيوش التتار من وسط آسيا وقد ضربوا المثل في الوحشية وسفك الدماء والغلبة والهيمنة واستعباد الشعوب إلى أن اهتدى قادتها فى العصور المتأخرة إلى الإسلام.
أما الموجة الثانية، فهي الصليبية التي جاءت من الغرب وكانت تتستر وراء صليب المسيح، لكنها إحدى الهجمات الإستعمارية الغربية التي استمرت تؤرق المنطقة لأكثر من أربعة قرون وانتهت بالإستيلاء على معظم المدن الفلسطينية وبيت المقدس.
أما الموجة الثالثة، فهي الصهيونية التي بدأت نهاية القرن التاسع عشر في صورة هجرة الفلاحين، من أوكرانيا وروسيا وشرق أوروبا، ولكنها لم تكن هجرات بريئة أو تدخل في إطار التحركات السكانية التي لم تنقطع عبر العصور. لقد جاءت هذه الهجرات لتستقر في فلسطين، ولم تكن دولاً وإنما جماعات وأفراد في إطار منظور بدأت نذره في الأدب والثقافة الغربية، خلال العصور الوسطى، ثم بلورها تيودور هرتزل في كتابه “الدولة اليهودية”، وكرسها “وعد بلفور” بأنها الوطن القومي لليهود.
من الواضح تماماً أن المشروع الصهيوني صمم خصيصاً لإغتصاب كل فلسطين وليس لمجرد استعمارها أو احتلالها، فلقد إستند على أوهام وأساطير بعضها يتصل بالتاريخ وبعضها يتصل بالتوراة، وكلها أكاذيب وحيل لإثبات أن اليهود يستردون “أرضهم”، أي فلسطين، لكونها “أرض المعاد”، وهي أرض مقدسة، زاعمين بأن الله قد خصصها لهم.
إن الطابع الإستعماري – الإستيطاني – الإحلالي – الإستردادي الذي يقضي بطرد الفلسطينيين من بلادهم وإعلان “إسرائيل الكبرى”، على كل فلسطين وما تيسر من أراضي مصر وغيرها، هو الذي يميز المشروع الصهيوني القائم على زعم مفاده العقيدة الدينية والقومية. بالمقارنة مع الهجمات السابقة، يمكن القول بأن تلك ارتدت على أعقابها وتركت المعارك الفاصلة في مصيرها آثاراً تحكي عن هذه الأحداث، فالتتار والصلبيين عادوا إلى بلادهم بعد هزيمتهم، وكانت مصر من تصدى لهم في الحالتين.
بالعودة إلى الإستعمار الغربي وهجمته على الدولة العثمانية والبلاد العربية، يمكن القول بأنه هو من خلف إسرائيل بهذه المواصفات لكى تكون “قلب التفاعلات” وسنداً الغرب وأداته لاستنزاف المنطقة وثرواتها واستذلال أهلها، فهذا المشروع يهدد هوية المنطقة العربية – الإسلامية. بالنسبة إلى الهجمة المغولية، فلقد كانت تهدد العروبة والإسلام في عقر دارها، وكذلك الغزوة الصليبية، التي كانت استعمارية في الأساس ولكنها موجهة إلى هوية المنطقة الإسلامية؛ أما هذا المشروع الصهيوني إن الخطر فيه أن ليس له وطن يرتد إليه، حيث يزعم أن وطنه فلسطين، وأن الفلسطينيين هم الذين اغتصبوها من اليهود.
ختاماً، أردت بهذه السطور أن أوضح لبعض الأصدقاء، الذين تجري على ألسنتهم بعض الأمثال ويجيدون سهولة في ترديدها دون تمحص في مضمونها وأهمها، أن هذه المنطقة هي مقبرة الغزاة وأن مصير الصهاينة سيكون كمصير أسلافهم من الغزاة. لكن اللافت في الحركة الصهيونية أنها اعتمدت على القوة الأعظم، أي الولايات المتحدة التي سيطرت على الحكام العرب وأخضعتهم للمشروع الصهيوني بحيث أحدث هذا الوضع صراعاً حتمياً بين الحكام والمحكومين العرب. إن المطلوب اليوم هو أن تقوم الشعوب العربية بتأكيد الدفاع عن هويتها العربية – الإسلامية؛ فإذا إنحاز لهم الحكام كان ذلك خيراً، وإن فضلوا التبعية لأمريكا وإسرائيل فلا عزاء لهم.
*سفير سابق ومساعد وزير الخارجية المصري الأسبق.
مصدر الصور: البوابة نيوز – تلفزيون الوطن.
موضوع ذا صلة: إرتفاع المؤشر الصهيوني وتراجع المؤشر العربي عبر قرن من الزمان