إعداد: مركز سيتا
في 4 مارس/آذار 2009، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف بحق الرئيس السوداني المعزول، عمر البشير، لمحاكمته بتهمة المسؤولية عن وقوع جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية، ارتكبت في إقليم دارفور، إلا أن الرئيس البشير سبق ونفى، في أكثر من مناسبة، صحة تلك الإتهامات، موجهاً إتهاماً معاكساً للمحكمة بأنها مسيسة.
هذه القضية، كانت ولا تزال، أحد الملفات الشائكة في السودان؛ ومنذ اللحظة الأولى لعزله، أعلن المجلس العسكري على لسان، عبد الفتاح البرهان، رفضه تسليم الرئيس البشير للخارج، وأن القضاء المحلي هو المختص بمحاكته وسيتولى بنفسه، ليعود بعد ذلك للموافقة على تسليمه.
ما الذي تغير؟
إن أسباب موقف المجلس العسكري، الذي يتشارك الحكم الآن مع “قوى الحرية والتغيير”، لا تخرج عن كون خضوع الرئيس البشير للمحاكمة يعرّض قيادات المجلس الأخرى للموقف نفسه، وخصوصاً قائد لواء الدعم السريع، محمد حمدان دقلو الشهير بـ “حميدتي”، التي شاركت قواته بالقتال في دارفور بإسم “الجنجويد”. وبالتالي، يمكن أن تؤدي محاكمة البشير إلى توريط قيادات عسكرية أخرى في الأحداث التي وقعت هناك.
على المقلب الآخر، يبدو أن قرار تسليم الرئيس البشير هو “قرار سياسي” بالأساس، حتى وإن صدر قرار قضائي بالموافقة على تسليمه، حيث لا بد أن توافق السلطة السياسية في البلاد، لا سيما وأن الخرطوم وقعت على ميثاق تأسيس المحكمة الجنائية الدولية، بالإضافة إلى أن الخلاف بين شقي السلطة ربما يظهر للعلن في أي وقت.
وفي سياقٍ متصل، قال رئيس الحكومة، د. عبد الله حمدوك، إن قرار التسليم “لن يكون قراراً سياسياً”، مؤكداً أن الأمر متروك بشكل كامل للقضاء السوداني فهو من سيقرر.
جدل واسع
أثار هذا القرار جدلاً كبيراً، حيث ربط عدد من المحللين بين القرار واللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، برئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، مؤخراً حيث أعلنت الخرطوم أنها سوف تسلم الرئيس البشير، ومطلوبين آخرين، إلى المحكمة.
في هذا الصدد، ذكر موقع “إيلاف” إنه منذ “الإعلان عن لقاء سري جمع بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان، تسارعت وتيرة إجراءات عملية تسليم الرئيس… كما أن موافقة السودان على تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية، جاءت ضمن صفقة التطبيع مع إسرائيل، التي جرى الإتفاق عليها في اللقاء السري بين نتنياهو والبرهان، وهو طلب تلح أمريكا عليه، من أجل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.”
أسباب ودوافع
في إطار سلسلة من الإجراءات، تقدمت الحكومة الإنتقالية والمجلس السيادي بخطوتين طالبت بها الولايات المتحدة، خلال زيارة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى واشنطن قبل أيام من نهاية العام 2019، وجرى خلالها الإتفاق على إجراءات ثقة متبادلة بين الجانبين من أجل رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
الخطوة الأولى، تمثلت في اللقاء السوداني- الإسرائيلي المفاجئ الذي جرى في العاصمة الأوغندية – عنتيبي، حيث تمت الموافقة على فتح المجال الجوي السوداني أمام الطيران الإسرائيلي المتجه إلى الهند وجنوب القارة الإفريقية، مع وضع تصورات مستقبلية لإنجاز ملف التطبيع بين الخرطوم وتل أبيب.
وقبل أن تهدأ عاصفة لقاء البرهان ونتنياهو، فجرت الحكومة السودانية المفاجأة الثانية، بإعلانها للمرة الأولى عن عدم ممانعتها تسليم الرئيس البشير، وثلاثة آخرين للمحكمة الجنائية الدولية، لمحاكمته في الإتهامات الموجهة له بتهم الإبادة الجماعية في دارفور.
هاتان الخطوتان أثارتا الكثير من الجدل عن توقيتهما لا سيما تأثيرهما على الوضع في السودان، الذي ما زال يعاني من تفاقم الأزمات الإقتصادية والأمنية والسياسية.
في هذا الشأن، يرى العديد من المراقبين السودانيين بأن أحد أهم أسباب إتخاذ القرار بتسليمه يكمن في ضعف الجهاز العدلي خصوصاً مع إستمرار سيطرة عناصر “الإخوان المسلمين” على مفاصل القضاء المهمة. فطبيعة المحاكمة في هكذا جرائم “تتطلب نظاماً قضائياً عادلاً ومستقلاً وهو ما لا يتوفر في الجهاز القضائي السوداني، في الوقت الحالي، ويجعل من الصعوبة ضمان محاكمتهم بشكل يعادل مستوى الجرم المرتكبة، ما لم تتم إصلاحات جوهرية سريعة وناجعة في الجهاز القضائي السوداني.”
في هذا الإطار أيضاً، يقول الأستاذ طلال إسماعيل، الباحث في الشؤون السياسية من الخرطوم في تصريح خاص لـ “سيتا”، إن “الموقف الرسمي للمكون العسكري هو محاكمة الرئيس المعزول أمام القضاء السوداني حول أية اتهامات يمكن أن توجه إليه خلال سنوات حكمه الماضية، لأن تسليم البشير للمحكمة الجنائية الدولية يثير حساسية عالية داخل القوات النظامية السودانية، وأعتقد أنه سيتم التوصل إلى تفاهمات بأن تتم المحاكمة داخل السودان وبحضور قضاة من المحكمة الجنائية الدولية لأن ذلك سيجنب المكون العسكري، في مجلس السيادة، حرجاً بالغاً من خلال إلتزامهم، ضمن المجلس العسكري الذي تم حله، بأن لا يتم تسليم الرئيس البشير وإنما محاكمته.”
ويضيف الأستاذ إسماعيل “الأمر الآخر أن إعلان الحكومة الإنتقالية مثول الرئيس البشير، والمتهمين الآخرين معه أمام المحكمة الجنائية الدولية، والإتفاق مع الحركات المسلحة التي كانت تقاتل النظام السابق هما خطتان تهدفان إلى كسب ثقة أطراف النزاع في مفاوضات السلام ولإظهار التزام الخرطوم باستجابتها للقرارات الدولية ومنظمات المجتمع الإقليمي والدولي لكي يساهم في عودتها إلى العالم من جديد.”
لحظة فاصلة
يرى مايكل نيوتن، أستاذ القانون بجامعة فاندربيلت – الأمريكية والمدرج على قائمة محامي المحكمة، إن هذه الخطوة، إذا حدثت، قد تمثل “لحظة فاصلة” بالنسبة للمحكمة. كذلك، يشير جون برندرغاست، الخبير والمؤسس المشارك لمجموعة مراقبة الحراسة في سنتري، بأن حكومة السودان الناشئة، بعد الرئيس البشير، تظهر “التزاماً جاداً بمبادئ حقوق الإنسان في الأشهر الأولى من توليها السلطة.”
أيضاً، دعت جولي فيرهار، الأمينة العامة بالنيابة لمنظمة العفو الدولية، إلى ترجمة الكلمات التي صدرت عن المسؤولين في الخرطوم إلى أفعال من خلال نقل الرئيس البشير وغيره من الأفراد، بموجب مذكرة التوقيف إلى لاهاي على الفور، مضيفة “عليهم أن يثبتوا كذلك. أن عصر الإفلات من العقاب على حكومة البشير قد انتهى من خلال تقديم جميع مرتكبيه المزعومين بإرتكاب جرائم مروعة في النظام السابق إلى العدالة.”
أخيراً، يبدو أن تطبيع السودان مع إسرائيل لا يزال في مراحله الأولى، حيث يمكن للأخيرة منحه “شهادة براءة من الإرهاب”، ما قد يساعد على تطوير العلاقات بين الطرفين بسرعة أكثر. إلا أن هناك امر مهم جداً يكمن في أن المنظومة العسكرية السودانية، خاصة أولئك الذين لا يزالون يحتفظون بولائهم للرئيس البشير، لن تسمح بالقبول بتنفيذ هذا القرار، فضلاً على أن هناك رموزاً سيتم الإطاحة بها، على غرار ما حدث للرئيس. إضافة إلى ذلك، إن الأطماع الغربية هي أكبر بكثير من رفع إسم السودان عن قائمة الإرهاب الدولي، وما الهدف من الطرح الأخير إلا “لليّ ذراع” الخرطوم كي تمتثل لسياسات الغرب، لعل أبرزها الإستحواذ على الجانب الإقتصادي ومقدرات البلاد.
مصدر الأخبار: سيتا + وكالات.
مصدر الصور: سبوتنيك.
موضوع ذو صلة: السودان وتعدد المبادرات الإقليمية