عبد العزيز بدر القطان*

لا يستقيم أمر المجتمع إلا إذا استوى على أسس بيّنة، ينزل الناس جميعاً عند حكمها، كما أشرنا إلى موضوع الحرية سابقاً، التي لا يمكن تحقيقها إلا من خلال القانون وسيادته، إذ أن علاقات الأفراد في المجتمع مهما تعددت مجالاتها، العائلية أو الإقتصادية أو السياسية، لا يمكن أن تترك فوضى ينظمها كل فرد بحسب رغبته؛ لذلك، لا بد من بناء المجتمع على أسس موضوعية تهدف لإقامة التوازن بين العديد من الحريات المتعارضة والمصالح المتضاربة. فالقانون هو الذي يقيم هذه القواعد التي تنظم المجتمع وتضبط سلوك الأفراد وعلاقاتهم، أما عن إحترامها فهو مرتبط بما تملكه السلطة العامة في المجتمع من قوة القسر والإلزام اللذين بدونهما لا يَفرِض القانون إحترامه.

أيضاً، أشرت في مواضيع سابقة إلى مقومات “دولة القانون” والتمييز بين القوانين، ومن أهمها القانونين العام والخاص. هنا، ينبغي التأكيد على أن بقاء هذا التمييز قائماً، في الفقه الحديث رغم معارضة بعض النظريات وبعض الإنتقادات؛ فحيث يتعلق الأمر بالدولة وعلاقاتها بالأفراد والدول الأخرى، تكون بصدد القانون العام، وحيث يتعلق بالأفراد وعلاقاتهم فيما بينهم تكون بصدد القانون الخاص، في الغالبية العظمى من الأمور.

في هذا السياق، إعتاد الفقهاء على تقسيم القانون العام إلى قسمين كبيرين؛ القانون العام الخارجي، الذي أصبح يعرف بالقانون الدولي العام والذي يقصد به الدلالة على مجموع القواعد القانونية التي تحكم علاقة الدول بعضها ببعض في الحرب والسلم. لكن لا يزال هذا القانون موضوع نزاع في إعتباره قانوناً بالمعنى الصحيح طالما لم يصدر عن سلطة عليا تملك فرضه كرهاً.

أما القانون العام الداخلي، فيقصد به مجموع القواعد التي تحكم العلاقات المتصلة بحق السيادة في الجماعة داخلياً وخارجياً، وتندرج في نطاقه فروع مختلفة حسب موضوعاتها، كالقانون الدستوري والإداري والمالي والجزائي.. إلخ.

هل كل القوانين والأنظمة متساوية في الدولة من حيث أولويتها وقيمتها؟

من المتفق عليه في الدول الحديثة، أن القانون الدستوري في طليعة قوانين الفرع الداخلي، فالدستور يشكل مجموعة القواعد التي تحدد نظام الحكم في الدولة وتبين دور السلطات العامة فيها، أي السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، كما توزع الإختصاصات فيما بينها، وتحدد علاقات التعاون أو الرقابة بين بعضها بعضاً، وتنص على ما للأفراد من حريات عامة وحقوق قبل الدولة التي تلتزم بكفالتها وإحترامها؛ بالتالي، يعتبر الدستور “أب القوانين”، وعلى دولة القانون الإلتزام بأحكامه، بحيث تقوم السلطة التشريعية أو التنفيذية بتطبيقه، وتلتزم القوانين الوضعية بأحكامه، وبحيث تقوم السلطة القضائية بإلغاء أو إستبعاد أي قانون أو تصرف يخالف الدستور.

بناء على ما سبق، كان لا بد من وجود نوع من التسلسل في المعايير القانونية، لا سيما مراعاة هذه التسلسلية في موضوع حقوق الإنسان بصورة خاصة. ففي القانونين الإنكليزي والأمريكي، تدرَّس الحريات العامة في نطاق دستورية القانون، في فرنسا، أيضاً ولفترة طويلة من الزمن، رُبطت دراسة الحريات العامة بالقانون الإداري. لكن الظاهرة الرئيسية الآن تكمن في إضفاء الصفة الدستورية على الحريات العامة، وذلك من أجل ضمانها بمعايير أعلى.

إذاً، إن تسلسلية المعايير المتعلقة بحقوق الإنسان قائمة في قوانين الدول الحديثة شأنها شأن تسلسل القواعد الأخرى بالنسبة للحقوق كافة. وإذا كان النص على الحريات يرد ضمن قواعد وأحكام الدساتير، فما ذلك إلا إعلاء لشأن الحريات العام وحقوق الأفراد. هنا تجدر الإشارة إلى أنه خلال فترة طويلة، كان البرلمان الفرنسي أفضل حامٍ للحريات، فالقانون بصفته تعبيراً عن الإرادة العامة لا يمكن أن يكون ظالماً، وما حقوق الإنسان إلا وسيلة ممكنة لضمان تماسك النظام القانوني.
.
*كاتب ومفكر – الكويت.

مصدر الصورة: Raddit.

موضوع ذا صلة: تطور “دولة القانون” الحديثة