شارك الخبر

العميد م. ناجي ملاعب*

صنف التقرير الصادر عن “المركز الأوروبي للطاقة والتحليل الجيو – سياسي” القارة الأوروبية بأنها “دائماً متعطشة للطاقة وقليلة الطاقة. وقد أثرت هذه العلامة المميزة للإتحاد الأوروبي على العلاقات الخارجية للكتلة، وكذلك على التشنجات الداخلية (داخل الدول الأعضاء)، وتشكيل مجموعة تصويت المجلس وروابط الولاءات غير الشفافة، المباشرة والضمنية، مع شركات الطاقة.”

تتوقع وكالة الطاقة الدولية أن يستورد الإتحاد الأوروبي حوالي 70 مليار متر مكعب من الغاز بحلول العام 2021. ولا يعول التقرير على وعود الإستفادة سريعأ من إكتشافات غاز شرق المتوسط ليخلص أن “الحقائق تدل على أنه بعد مرور ست سنوات على الإكتشاف الكبير الرائد، ما زال العالم ينتظر أول متر مكعب من الغاز من حوض شرق المتوسط.”

المصادر الروسية للطاقة

تتسم العلاقات الروسية – الأوروبية بالتعقيد وعدم الشفافية، حيث أن الطرفين بعيدان تماماً عن علاقات الود والصداقة، ولكن ما يمكن أن نفهمه أنها علاقة مصالح بالأساس، وتلك المصالح تتمحور في أنابيب الطاقة وأمن إمداداتها وإستمراريتها بالنسبة لأوروبا، وأمن الصادرات وضمان نسبة التصدير بالنسبة لروسيا.

من هنا، ترتبط روسيا بالدول الأوروبية بعلاقات طاقوية فقط، أو بمعنى أدق علاقات تحت مظلة أنابيب وأمن الطاقة الروسية بإتجاه أوروبا، ويسودها جو من الريبة من الطموحات الروسية التوسعية نحو أوروبا الشرقية، وتطلعاتها لعالم متعدد الأقطاب تتقاسم فيه السيطرة على العالم مع الولايات المتحدة.

تعتبر شركة “غاز بروم”، وهي المملوكة من الحكومة الروسية، ثاني أكبر شركة في مجال الطاقة في العالم بعد شركة “إكسون موبيل” الامريكية، وتحتكر روسيا من خلالها شبكات أنابيب الغاز المتجهة إلى أوروبا. وتصدر موسكو الغاز للسوق الأوروبية من خلال أربع أنظمة خطوط أنابيب رئيسية:

– الخط الأول: يمر عبر أوكرانيا إلى دول الإتحاد، وكان يعتبر خط إمداد رئيسي، لكن توقف العمل به بعد الأزمة بين موسكو وكييف.

– الخط الثاني: يمتد من روسيا عبر بيلاروسيا وبولندا إلى دول الإتحاد.

– الخط الثالث: نورث ستريم – 1، أو “السيل الشمالي – 1″، يمتد من روسيا عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا مباشرة، وهذا الخط مهم إستراتيجيا لروسيا، بسبب قدرته على نقل لديه القدرة على نقل 55 مليار متر مكعب سنوياً أي 37% من صادرات موسكو إلى دول الإتحاد.

الهدف من هذا المشروع هو تجاوز دول العبور، لا سيما دول أوروبا الشرقية، وبذلك ستخسر بعض الدول رسوم عبور الأنابيب السنوية، وستصل صادرات الغاز مباشرة إلى الدول الغربية.

– الخط الرابع: “السيل التركي”. سابقاً، عملت موسكو على تنفيذ مشروع “السيل الجنوبي”، عبر البحر الأسود وبلغاريا إلى دول الإتحاد الأوروبي، لكن في العام 2014 رفضت المفوضية الأوروبية المشروع وهددت بإتخاذ إجراءات قانونية ضد بلغاريا إذا وافقت عليه، ما دفع موسكو للإتفاق مع أنقرة لمد خط “السيل التركي” من أراضيها عبر البحر الأسود مروراً بتركيا ومن ثم إلى دول الإتحاد . و”السيل التركي” هو مشروع لمد أنبوبين بسعة 15.75 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً لكل منهما، من روسيا إلى تركيا مرورا بالبحر الأسود، بحيث يغذي الأنبوب الأول تركيا، والثاني دول شرقي وجنوبي أوروبا.

أيضاً، صادقت شركة “غاز بروم” على خطة تطوير مدتها 10 سنوات تتضمن بناء موصل جديد للغاز الصربي المجري بسعة 6 مليار متر مكعب سنوياً،. إضافة إلى السيل التركي، يربط خط أنابيب “السيل الأزرق” بين موسكو وأنقرة بقدرة سنوية تقدر بـ 16 مليار متر مكعب.

وقد وضعت روسيا خطيْ أنابيب للغاز الطبيعي الممتدين من أراضيها من أقصى شمال نصف الكرة الأرضية، “نورد ستريم – 2″، أو “السيل الشمالي – 2″و”ترك ستريم” الذي يمر عبر تركيا. ويبدو أن الطموحات الروسية جدية للغاية، ذلك أن الإستثمار في كلا الخطين كان مكلفا للغاية، لكن الدولة الغنية بالنفط قد نجحت في جذب الأنظار إليها.

جغرافياً، تقع أوكرانيا بين خطي الأنابيب في الشمال والجنوب، لكن تم تجاهلها برغبة روسية، وفضلاً عن ذلك تعكس حجم الخيارات المتاحة في يد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. لقد كلف سوء التقدير أوروبا مرة أخرى، بينما تقدمت روسيا خطوة. إنها مجرد بداية لسياسة روسية كبرى بإتجاه العمق الأوروبي، ويبقى على الإتحاد أن يتحسب لمستقبل العملاق الصيني وحاجته للغاز الروسي. ويقدر الخبراء الإقتصاديون أنه بحلول العام 2030، من المحتمل أن تتضاعف إحتياجات الصين من الطاقة مقارنة بالوقت الحالي، في حين لا ترغب أوروبا في جعل الصين تطالب بسحب الإحتياطات الروسية إلى الشرق.

واذا كانت أوروبا ترحب بمصدر جديد لإمدادات الطاقة بإسم “المنافسة المربحة”، لكن ذلك لا يغيّر من أساس المخاطر الجيو – سياسية العميقة، فقد إعتمدت الدول الأوروبية، في السنوات الأخيرة بشكل كبير، على إمدادات الغاز الطبيعي الأميركي ومجموعة جديدة من مصادر الطاقة المتجددة.

البدائل الأميركية للغاز الروسي

تتدخل الولايات المتحدة في سياسات القارة الأوروبية الخاصة بالغاز الطبيعي؛ لذلك، قام الأوروبيون والأميركيون بوضع الخطط الإستراتيجية لتمديد أنابيب الغاز كخيار إستراتيجي للحد من هيمنة روسيا على سوق الطاقة الأوروبي والعالمي لإعتبار الطاقة، من نفط وغاز، العصب والمحرك الإقتصادي لأوروبا ونهضتها الاقتصادية.

فلقد وضعت واشنطن، بالتعاون مع شركائها في حلف الناتو، إستراتيجية جيو – سياسية لإستيعاب جمهوريات الإتحاد السوفيتي السابق الآسيوية في الفلك الغربي، وشراء الغاز منها وإستجراره عبر خط “نابوكو” العابر للقارات لنقل الغاز من أواسط آسيا إلى أوروبا متفادياً المرور في روسيا، الأمر الذي سيقلص إعتماد الاتحاد الأوروبي على إمدادات الغاز الروسية.

يمتد هذا الخط عبر حوض قزوين ليحمل غاز تركمانستان إلى أذربيجان ومنها إلى أرضروم في تركيا ثم سيمر ثلثا خط الأنابيب عبر أراضي تركيا ومن ثم يعبر بلغاريا ورومانيا ثم المجر إلى منتهاه في محطة تجميع ضخمة في مدينة Baumgarten an der March، في النمسا، وطول الأنبوب 2050 ميلاً أو 3300 كلم.

كما تسعى الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي لتوسيع شبكة الأنابيب تلك لتتمكن أيضاً من نقل النفط والغاز من ميناء أكتاو في كازاخستان، من خلال خط يمر تحت بحر قزوين؛ الأمر الذي يستلزم قانونياً موافقة روسيا وإيران على المشروع.

وتخطط واشنطن للإستفادة من تمرير الغاز المصري، كذلك، ليصب في خط نابوكو بالإضافة إلى الغاز القطري الذي رفضت الحكومة السورية العام 2009 مروره في أراضيها بالمفاضلة مع “الخط الإسلامي” المنوي عبوره بالغاز الإيراني إلى العراق متجهاً الى مصبه في حمص، ومنها الى أوروبا عبر قبرص.

كما إستفادت الولايات المتحدة أيضاً من الخلاف بين إيران وأذربيجان بسبب دعم طهران لجمهورية أرمينيا في نزاعها مع أذربيجان، حول إقليم ناغورنو كاراباخ، فدفعت بإستثمارات هائلة تعدت العشرين مليار دولار في قطاع النفط لأذربيجان في بحر قزوين.

وإدراكاً منها للمشاكل التجارية المتمثلة في زيادة حصة الغاز الطبيعي المُسال في السوق الأوروبية، ستواصل الولايات المتحدة دعم قطر للتأثير على الإمدادات الروسية من الغاز للسوق الأوروبية.

وفي المقابل، لا يمكن للغاز الطبيعي المُسال الأمريكي أن يكون جذاباً تجارياً للمشترين الأوروبيين إلا إذا تم تسعير الإغراق، الذي طبق بشكل خاص على بولندا. ومع ذلك، يبدو الإغراق في السوق الأوروبية بأكملها غير عملي من الناحية الإقتصادية، خاصه وأن موردي الغاز الطبيعي المُسال الأمريكي هم شركات خاصة، وليسوا دائماً على إستعداد للمشاركة في اللعبة الجيو – سياسية ويفضلون بيع منتجاتهم بالسوق المحلية بشكل حيوي.

“عقوبات واشنطن تناقض القانون الدولي”

أوردت وكالة الطاقة الدولية لعام 2013، جداول بالدول العشر المنتجة للغاز. وحلت الولايات المتحدة في المرتبة الأولى (689 مليار متر مكعب) تليها وروسيا (671 مليار متر مكعب) وإيران (255 مليار متر مكعب) وقطر (161 مليار متر مكعب)، ثم تأتي كندا والصين والنرويج وهولندا والسعودية والجزائر.

لذلك، تسعى واشنطن إلى سياسة فرض العقوبات على توريد الغاز الروسي إلى أوروبا لتحقيق هدفيها؛ الهدف الأول، عدم رهن القارة العجوز للطاقة الروسية وما يتبع ذلك من هيمنة سياسية. الهدف الثاني، بيع المنتج الأميركي من الغاز المسال ولو بفارق ملفت للأسعار.

وتخوض الدبلوماسية الأميركية، بشكل علني، سياسة التهديد بفرض العقوبات على إستجرار الطاقة من روسيا. فقد أعلن وزير الخارجية، مايك بومبيو، في عدة مناسبات وكان آخرها في مؤتمر ميونيخ للأمن أن بلاده تعتزم فرض عقوبات إضافية على المشروعين الروسيين لأنابيب الغاز، “السيل الشمالي- 2” والفرع الثاني من “السيل التركي”. كما وجه بومبيو، عملياً، إنذاراً نهائياً للشركات المشاركة في تنفيذهما حيث قال “توقفوا عن العمل فوراً، وإلا فإنكم تخاطرون بعواقب غير سارة”.

في المقابل، لا يعتد الخبراء الروس بهذا التهديد ويؤكدون على أنه لا جديد في الإجراءات الأمريكية، فالقانون معتمد منذ عدة سنوات، وبومبيو ذكر فقط بإمكانية تطبيقه.

بالأساس، يعارض الإتحاد الأوروبي مبدأ فرض الولايات المتحدة عقوبات آحادية ضد مشروعي “السيل الشمالي – 2” و”السيل التركي”، بإعتبارها مخالفة للقوانين الدولية. إنما السؤال الآن عما إذا كانت أوروبا ستنحني أم ستقاوم. إذا إنحنت، فسوف تُظهر بأن الأمريكيين يتخذون قرارات بدلاً عنها، ويقررون مع من يمكنها التجارة ومع من لا يمكنها ذلك.

في مجال حيوي يشكل عصب الصناعة الأوروبية ومهما كانت البدائل من الطاقة النظيفة، فقدر أوروبا أن لا تنصاع تماماً للعقوبات، فروسيا ليست إيران لكي يتم حظر التجارة معها، فالأمر لا يتعلق فقط بـ “السيل الشمالي – 2″، إنما بإستقلالية أوروبا في العلاقات الدولية.

في الخلاصة

إن المعضلة الأوروبية لم تنته بعد، لأن روسيا لعبت الأوراق على كلا الجانبين، إذ سيكون على أوروبا صياغة نهج من شأنه حفظ ماء الوجه مع تركيا، وذلك بالنظر إلى الطريقة التي تعاملت بها مع أنقرة بشأن القضايا المتعلقة بعضوية الإتحاد الأوروبي. وعلى خلفية الخروج الناجح لبريطانيا من الإتحاد الأوروبي، فإن تركيا ستضغط من جديد على أوروبا، التي طالما ذكرت تركيا بأنها غير مناسبة. وعلى عكس ما لا ترغب به أوروبا، فإن الإحتياطات الروسية تتدفق الآن عبر الأراضي التركية، والتي قد تتمكن من تدمير المنافسين الجدد في سوق الطاقة.

هنا، يتركز الإهتمام الأميركي حول تسريع الإستثمار في المكتشفات الهيدروكربونية شرق البحر المتوسط، ومنها قبول لعب دور الوسيط في ترسيم الحدود البحرية ما بين لبنان والكيان الصهيوني، وما سبقه من إنشاء “منتدى غاز المتوسط” ومركزه القاهرة. وقد يكون ما جرى في أذربيجان من معارك وأحداث مؤخراً هو صراع على الغاز وطرق الإمداد.

كل ذلك لن يعطي نتائج قريبة، إذ يبدو أن الصراع سيتركز مستقبلاً على بحري قزوين والأسود، أي على منابع الغاز وطرق إمداداته، وفقاً لما تدفع نحوه الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيين، للحد من السيطرة الروسية على أنابيب الطاقة نحو أوروبا. إذ تكشف آليات الصراع الدولي الحالي أن النظام العالمي الجديد يتشكل وفق صيرورة تقوم على منظومات القوة الإقتصادية والهيمنة العسكرية التي ترتكز على حجر أساس هو الطاقة، بشكل عام، وعلى الغاز الطبيعي، بشكل خاص.

من هنا، يمكن فهم آليات التنافس والصراع بين المحورين الروسي والأميركي. فهل ستكون نتيجة هذا الصراع العودة إلى عالم متعدد الأقطاب يؤمن التوازن على الساحة الدولية؟ أم ستستطيع الولايات المتحدة الأميركية من خلال تأثيرها على حلفائها الأوروبيين المحافظة على أحادية القطب؟ الجواب مرهون بما سوف تعتمده الإدارة الأميركية الجديدة.

*عضو الهيئة العلمية لمجلة “الدراسات الأمنية”.

مصدر الصور: روسيا اليوم – الإقتصادية.

موضوع ذا صلة: تركيا.. مفصل رئيسي على خطوط الطاقة


شارك الخبر
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •