الأزمة الغذائية المقبلة على الأبواب والتي ستطرق أبواب العالم أجمع، لا تعني أن خير البلاد انتهى، ولا تعني أن البذار انفقدت لدى المزارعين، ولا تعني توقف دعم الحكومات لأراضيها والاستثمار فيها. إنه جشع الإنسان، ببساطة واختصار ووضح، الطمع والحقد والأنانية، أودت بالعالم نحو الهاوية.. لماذا وأكبر معمّرٍ في هذه الأرض لا يصل إلى الـ 100 عام، وآخر أعوامه يكون كالطفل الوليد؟
وبالذهاب إلى الحرب الروسية – الأوكرانية، وبعيداً عن السجال الدولي الحاصل ورحى المعارك الدائرة هناك، نعود إلى أصل المشكلة، وهي نقض الطرف الأوكراني لاتفاقية مينسك، التي تقضي بحماية إقليم دونباس الناطق باللغة الروسية، الأمر الطبيعي أن كل دول الاتحاد السوفيتي قبل تفككه، كانت تحت مظلة واحدة، ويد واحدة في السلم وفي الحرب.
لكن مع تفككه في العام 1991، واستقلال جمهورياته، بقي الود فيما بينهم باستثناء بعض الدول التي رغبت أن تلحق بركب الغرب، وهذا حقها الطبيعي في أن تبني تحالفاتها في الاتجاه الذي ترى فيه الخير لها، ما أريد الوصول إليه هنا أن روسيا شنت حرب كبيرة على أوكرانيا تحت عنوان حماية إقليم دونباس، وهو جغرافياً متداخل بين موسكو وكييف، ولكن إدارياً ووفق القانون هو إقليم أوكراني، كما كان الحال مع شبه جزيرة القرم، وهذا يعني لو كانوا مواطنين روس لاشتعلت الحرب أيضاً، ولو كان هناك أية علاقة تربط الجانبين لاشتعلت الحرب أيضاً، في بلاد تكرم الإنسان، اتفقنا أم اختلفنا، إنحزنا إلى هذا أو ذاك، هناك قتال عالمي، لأجل لقمة عيش ولأجل الحبوب والنفط والغاز والموانئ والبحار والأنهار والتجارة العالمية والداخلية والإقليمية واتفاقيات دفاع مشترك، وأنظمة تعليمية عالية وغير ذلك الكثير.
وهنا أشدد إن توصيف الحالة لا يعني الانحياز إلى أطراف على حساب أخرى، بل الواقع أن ما يعنيني هو الإنسان في كل مكان من هذا العالم الفوضوي المدمَّر بسبب شجع الإنسان نفسه.
إقرأ أيضاً: الاستعمار الجديد والأمن الغذائي
لفت نظري بالأمس موقف دولة عربية رأيته غريباً جداً، الموقف أن هذه الدولة بالتعاون مع الغرب ستعقد قمة حول الأمن الغذائي في يونيو/حزيران المقبل (2022)، لأنها تستورد أكثر من 80% من الحبوب من أوكرانيا، لكن المفتاح مع الروس، والقمح يحتاج إلى أسمدة، والأسمدة روسية، تأمّل هذه الحلقة، التي سأعود لتفصيلها، وهناك دولة عربية في بداية الحرب الروسية – الأوكرانية انحازت إلى جانب أوكرانيا، لأن حبوب قمحها من أوكرانيا، رغم أن روسيا سبق وأن عرضت عليها إنشاء محطات كهرباء على حسابها، لكن كان للحبوب الوقع الأكبر، ورغم أن صوامع حبوبها دمّرت قبل الحرب الروسية – الأوكرانية بكثير، لكنها لم تكلف خاطرها وتقوم بإصلاح هذه الصوامع ما وضع البلاد تحت مؤشر خطير توالت من بعد الأحداث.
هذه السياسة المتبعة في بلادنا العربية لا يمكن لقارئ علوم سياسية أن يفهمها، وبالعودة إلى الدولة الأولى، كيف تريد عقد قمة في غياب روسيا المعنية أكثر من أوكرانيا في هذه المسألة، فمن يملك المفتاح يملك رمز الدخول، والموانئ الأوكرانية في قبضة الروس، فأمام أية عقلية متنورة نتحدث، هل الهيمنة الغربية سلبتنا القرار، أو على الاقل الحيادية؟ فعلاً، تُرفع القبعة للمملكة العربية السعودية وموقف وزير الطاقة، في تنسيقه مع موسكو في منظمة أوبك، وتُرفع القبعة لإمارات العربية المتحدة، التي تريد الحياد والإلتزام بعلاقات جيدة مع كل الأطراف، على عكس قطر التي أبرمت عقداً لتوريد الغاز مع ألمانيا، وتخطط ربما للتوسع وهذا شأنها في إطار مصلحتها العامة؛ لكن في التحالفات، لا أحب أن أرى مواقف متباينة من أطراف ضد أخرى، ربما نظرتي في هذا الأمر خاطئة، لكن أجدها تبعث على الارتياح في السياسات الخارجية، وهذا يأخذني إلى نقطة غاية في الأهمية، فقد انتقد الأمير تميم بن حمد – من مؤتمر دافوس – الغرب الذي لا يتقبل فكرة استضافة قطر كدولة عربية مسلمة لكأس العالم، فيما أكد أن قطر تعمل “بكل جهد لتكون بطولة كأس العالم لكرة القدم فرصة للتعرف على منطقتنا التي عانت من التمييز”، وبنفس الوقت هو الحليف الأقوى لهذا الغرب، لكن التحالفات والتوازنات الدولية شيء، والثقافات والأعراق واللغات شيء آخر.
بالتالي، تتمتع معظم البلاد العربية بخيرات كثيرة من نفط ومواقع استراتيجية، وأراضٍ زراعية، وأيدٍ بشرية، تستطيع تطوير قدراتها كيفما أرادت، في حال أرادت. لقد قسمنا الاستعمار قديماً، إلى أن وصلنا إلى مرحلة إنكار ذاتنا وقدراتنا، وإبداعاتنا، لقد حدت منها حكوماتنا، البحر لله لكنه ليس لنا، للأثرياء منا، والمنتجعات والمصانع ورؤوس الأموال كلها لطبقة واحدة “الأوليغارشية” كما يسميها الروس، وتجد أن رجل أعمال واحد يطرق باب وزير وكأنه رئيسه، ويقضي في أوروبا وقتاً أكثر مما يقضيه في منزله ومع عائلته، ليكون الأمر أن من يتحكم بنا هم أصحاب رؤوس الأموال، وأينما وجدوا تجد الجوعى والفقراء، تجد بيع الضمائر هو التجارة الأكثر ربحاً، ومع شديد الأسف هذا ينطبق على واقعنا العربي اليوم وبالأمس ولن يتغير مستقبلاً.
لكن أن يصل الأمر لأن تُباع حقوق الشعوب لإملاء خزائن الحكومات هنا الطامة الكبرى، ألا يكفي تقسيم البلاد، وتقسيم الدولة إلى دويلات، نجد العرب يريدون بيع حقوق أبنائهم بحجة منفعتهم، كيف ذلك؟ هل قمتم باستبيان رأي أو كلفتم أحد أن يجري مسحاً دقيقاً شاملاً يبين رغبة هذا الشعب من عدمها؟ هذا أمر خطير. خلال قراءاتي خبراً قبل بعض الوقت، لم يزعجني بالقدر الأكبر من التبرير، لقد انتهت الحكومة المصرية من إعداد المشروع النهائي لبيع العديد من أصول الدولة وخصخصة قطاعات حيوية، منها موانئ وبنوك وفنادق وشركات اتصالات وتعليم ومشروعات بنية تحتية، وطاقة وتحلية مياه و10 شركات قطاع أعمال عام، وشركتان تابعتان للقوات المسلحة، إضافة إلى إعادة هيكلة قطاعي النقل البحري والبري والسكك الحديدية، حيث لاقت خطة بيع أصول الدولة ردود فعل غاضبة داخل الشارع المصري وبين المهتمين بالشأن العام والتي وصفها بعضهم بالخطيرة لتفريطها في الأصول والشركات العامة وحقوق المصريين لحساب المستثمرين الأجانب، وعدم قصرها على شركات قطاع الأعمال كما جرت العادة، أيام حكم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، بل امتدت إلى قطاعات استراتيجية ومشروعات البنية التحتية وخدمات مرتبطة مباشرة بالموطن، هل هناك أخطر من العبث بقوت المواطن؟
ملامح الخطة التي ظهرت على وسائل الإعلام تبين أن كل ما سبق ليس بخطورة اللاحق، هناك فكرة لدمج أكبر 7 موانئ مصرية في شركة واحدة وطرحها في البورصة، بالإضافة إلى عدد من الفنادق المملوكة للدولة ومشاريع النقل الحديث، ويتضمن المشروع فصل إدارة الموانئ، ووضعها تحت إدارة شركة قابضة موحدة، تسمح بالبيع ودخول القطاع الخاص في الاستثمار وإدارة حركة الشحن والتفريغ، في الموانئ التجارية، مع إشرافها على الإدارة والمساهمة مع القطاع الخاص في ملكية الموانئ الجافة، التي تقام حول القاهرة الكبرى والمحافظات.
إقرأ أيضاً: في روسيا… الزراعة أقوى من السلاح
الدولة تقول لا بيع للموانئ وإنما خصخصتها، لكن طرح هذا الكم الكبير من الموانئ المصرية دفعة واحدة للخصخصة وإدراج أسهمها في البورصة فيه مخاطر كبيرة، فسبق وأن أرادت هيئة موانئ دبي أن تشتري ميناء واحداً في أميركا، فرفض الكونغرس وجميع مؤسسات الدولة هذ العرض، وقالوا إن الموانئ تعد ضمن منظومة الأمن القومي ولا يجب أن يمتلكها أجانب؛ في الحالة المصرية، للخروج من الأزمة الخانقة تريد أن تبيع أو تخصخص أو أياً يكن، ما نعلمه أن ذلك ليس لصالح مصر أو شعبها.
هل عرف العرب لماذا المفتاح مع الروس. روسيا التي عوقبت من أغلب الدول، استطاعت تأمين نفسها وإنقاذ اقتصادها، ونحن العرب، نهتز مع وباء “كورونا”، ونهتز بما يحدث في بحر الصين الجنوبي والبحر الأسود، وفي إفريقيا، لأننا لا نملك سياسات اقتصادية متينة كل حلول حكوماتنا آنية ومؤقتة تعالج الوقت الحالي ولا تنظر إلى أبعد من ذلك، فإطباق الغرب على خيراتنا هو نظرة المستقبل لهم وتأمين شعوبهم على حساب شعوبنا، مقابل ان يحافظوا على كرسي هذا الزعيم أو ذاك، الحلول معرفة، لكن لا حل، لأن بلادنا كسولة لا تحب العمل، بل تحب التسول على موائد الغرب، فأخاف أن يأتي يوم لا أجد فيه عرباً سوء في صفحات التاريخ.
مصدر الصور: موقع نبض – Getty.
كاتب ومفكر – الكويت